التقصير يولّد الأزمات: عودة المغتربين نموذجاً

التقصير يولّد الأزمات: عودة المغتربين نموذجاً
أ.د أحمد العجلوني
باحث أكاديمي وخبير اقتصادي

قالت العرب قديماً “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، وهذه العبارة من أجمل ما قيل من الحكم ومن أكثرها فائدة؛ إذ أنها تؤكد على ضرورة العمل على تجنب المشاكل قبل حدوثها. ومن الدروس المهمة التي تعلّمنا إياها الأزمات – ومنها بالطبع أزمة الكورونا- أن هناك فرقاً شاسعاً بين من يبذل درهم الوقاية مسبّقاً بالاستعداد للأزمات ومن سيجبر على دفع “القناطير” بسبب إهماله أسباب الوقاية، وانتظار الأزمات حتى تقع؛ ثم يبدأ بالبحث عن حلول لها والشروع بإجراءات ارتجالية طارئة للتعامل معها. فكيف بمن يصنع بتقصيره وإهماله أزمة بلا داع؟!
لقد شاب استراتيجية إدارة الأزمة الحالية الكثير من الخلل الناتج عن عدم قبول الحكومة عروض التعاون والمساعدة الكثيرة من الخبراء والمتخصصين من خيرة أبناء البلد. كما أنها توصد الأبواب أمام مناقشة أفكار ومقترحات كثيرة كان من الممكن أن ترشّد القرار وتقلل من العثرات، ما أدى إلى خلق أزمات إضافية كان من الممكن تفاديها بكل سهولة.
ومن الأمثلة على الأزمات التي أنجبها رحم التجاهل والتقصير الحكومي ما بات يعرف بـ”أزمة عودة المغتربين” التي اقترحت حلاً لها قبل أن تقع منذ ما يقارب الشهرين ولم يجد آذاناً صاغية. إذ أمسى عشرات الآلاف من الأردنيين المغتربين في دول الخليج العربي عموماً وفي المملكة العربية السعودية خاصة ما بين نيران الغربة ومرارتها من جهة والإهمال والتجاهل والتقصير الحكومي من جهة أخرى، بل إن البعض بات مقتنعاً بأن الحكومة تستغل حاجتهم للعودة إلى الوطن لاسترضاء وتنفيع جهات معينة، فضلاً عن التكسّب منهم بفرض ضرائب إضافية عبر ما يجبرون عليه من إجراءات لا جدوى منها.
إن موضوع عودة المغتربين نهاية كل عام شيء طبيعي سواء لقضاء الإجازة الصيفية أو انتهاء العمل، ولدى الحكومة إحصاءات سنوية بالأعداد وأوقات العودة من سنوات سابقة. وكل ما يحتاجه الأمر في هذه الظروف بضع ترتيبات إضافية تتعلق بالإجراءات الطبية التي تتم بالتنسيق مع وزارة الصحة ووزارة الداخلية كي يتم ضمان عدم نقل العدوى، على الرغم من أن المغتربين يخضعون لحجر مشدّد منذ أكثر من شهرين. وقد اقترحت – كما اقترح الكثيرون غيري – حلولاً واقتراحات عملية أوصلناها بكل الطرق للحكومة، ولكنها – وبكل أسف- لم تعر هذا كله أدنى اهتمام!
لقد أدى إهمال التعامل مع معاناة المغتربين إلى خلق أزمة حقيقية كان من مظاهرها تراكم أعداد كبيرة ممن أنهيت عقودهم بسبب الجائحة، فضلاً عن الزائرين الذين انقطعت بهم السبل. ما أدّى إلى ظهور حالات عديدة جداً من المعاناة الشديدة على المستوى المادي والإنساني، حتى بات الأمر ظاهرة مخجلة تمس كرامة المغتربين الأردنيين عموماً. عدا الأعداد الكبيرة من العاملين الذين ينتظرون نهاية العام للقاء أبنائهم وآبائهم وأقاربهم. وكان من مظاهر الأزمة أيضاً نشوء شرخ اجتماعي خطير نتج عن الإحساس بأن المغتربين طبقة اجتماعية غريبة ومهملة وليست سوى “بقرة حلوب” تحوّل الأموال للبلد، وليس لهم أياً من حقوق المواطنة كباقي المغتربين من الجنسيات الأخرى.
وبعد مئات أو قل آلاف النداءات بكل الوسائل بأن هناك مواطنين أردنيين بحاجة لممارسة حقهم بالعودة إلى الوطن بدأت الحكومة بالالتفات بنصف عين لهذه النداءات، وبدأت تسمح بالدخول بأعداد قليلة جداً، بآليات وإجراءات تتميز بنسبة كبيرة من عدم التنظيم، إضافة إلى الإجراءات المعقّدة بلا سبب على المنفذ البري الوحيد (حدود العمري) وما بعدها. ويكفي الاطلاع على عينات من التجارب المريرة المنشورة على وسائل التواصل للمغتربين لإدراك مدى قساوة ما يحدث من معاناة وحرج للناس بسبب التقصير وضعف الأداء الإداري.
إن اختلاق هذه الأزمة في تنظيم عودة المغتربين، وما يرافقها من معاناة إنسانية وتكاليف مادية غير مبررة لن يمنع انتشار الكورونا، فهناك الكثير من الأمثلة على العشوائية والقرارات الطائشة في موضوع الحظر داخل البلد، وكذلك التقصير المخجل في تنظيم دخول سائقي الشاحنات والمعاملة غير اللائقة لهؤلاء الناس بعد ذلك وتحميلهم مسؤولية الفشل؛ فقد رأينا كيف أن حالة واحدة منهم كانت كافية لإعادة جهود مكافحة الانتشار إلى المربع الأول. كما أن استغلال المغتربين مادياً لن ينتشل الفنادق من خسارتها؛ ولن يحسّن من موازنة الحكومة الغارقة في الديون. بل إن انخفاض أعدادهم سيقلل بشكل واضح من النشاط الاقتصادي في الصيف الذي يعتمد بنسبة كبيرة منه على إنفاقهم.
كل ما هو مطلوب من الحكومة أن تتدارك هذا التقصير، وأن تسارع إلى القيام بواجبها في تنفيذ الإجراءات التي تكفل عودة المغتربين بسرعة، وبما يحقق التوازن ما بين الالتزام بالإجراءات الحكومية الصحية “المعقولة” وما بين الحق الدستوري لأي مواطن في أن يعود إلى بلده متى شاء وبكل حرية، وللأهل والأبناء أن يلتقوا بأحبائهم الذين غابوا عنهم طلباً للرزق أو تقطعت بهم السبل في بلاد الاغتراب.

حفظ الله الأردن من كل شر وأدام ازدهاره
https://www.facebook.com/ProfATAlAjlouni/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى