التعصب الفكري

التعصب الفكري
د. هاشم غرايبه

الفكر هو عملية عقلية بشرية، وهو محصلة أو خلاصات فكرة أو مجموعة أفكار، تكونت بالتأمل في التاريخ والملاحظة للواقع المعاش، تصلح للتطبيق كقواعد منظمة للعلاقات الإنسانية البينية، والحياة المجتمعية البشرية.
وبما أن الفكر مجتمعي فلا يُنتَج فرديا، أي لا يمكن لكل شخص أن يكون فكرا خاصا به، لذا فهو منتج نخبة وجدت على مدى العصور يسمون مفكرين، وتطور الفكر الإنساني الجمعي التراكمي، ليشكل في كل عصر قمة ما وصل إليه، لذلك كلما استجد عصر يعتبر فكره هو الأمثل، الى أن يتعدل في العصر الذي يليه.
لذا لا يمكن الجزم في أي زمن بأن الفكر البشري قد بلغ القمة، فالكمال محال، ولما كان المنطق الرياضي يفترض أنه لا بد من وجود نهاية واستكمال لكل فعل، لذا فما لا يتحقق له نهاية هو نسبي.
النسبية هي مقارنة متغير الى ثابت وليس الى متغير، لكي تكون المرجعية معيارية، وذلك دليل على وجود المطلق، ومنطقيا يجب أن لا يكون بشريا…إذن فهو إلهي.
هكذا يتبين لنا أن المطلق المرجعي هو الفكر الإلهي، والذي عرفه البشر عبر الأنبياء.
عموما، وحتى يكون الفكر نافعا للبشر، يجب أن يكون إنسانيا عاما، ولذلك شروط هي:
1 – أن يكون شموليا لكل البشر، وأن يعالج جميع الجوانب المتعلقة بالحياة البشرية ومصالحها واحتياجاتها، لذا فالفكر القومي ينطلق من نزعة انتمائية حمائية، موجه لنفع قوم محددين دون بقية البشر، وعليه فلا يعتبر فكرا إنسانيا.
2- كما يجب أن يكون عمليا قابلا للتطبيق، لا مجرد قيم مثالية، لذلك سقطت فكرة المدينة الفاضلة، وفشلت الفكرة الشيوعية لأنها معاكسة للفطرة البشرية التي تنزع للتملك والتميزالفردي.
3- بما أن البشر متساوون، وذوي طبيعة واحدة، وتحكمهم النزعات والرغبات ذاتها، لذا يجب أن يضمن أي فكر العدالة والمساواة للجميع مهما تباينت قدراتهم، لذلك فالفكر الرأسمالي ليس إنسانيا لأنه يهتم بمتطلبات أصحاب الملاءة المالية والنفوذ، وأما الأقل حظا فهم أقل نصيبا من المكتسبات.
هكذا نتوصل الى قصور كل المحاولات البشرية لتكوين فكر إنساني جامع، يلبي المتطلبات جميعا، والذي باعتماده يمكن تحقيق مصالح المجتمعات في أي مكان وزمان.
السؤال الهام هنا: إذا افترضنا أن الفكر الإلهي الذي أرسله الله للبشر تحت مسمى الدين يحقق ذلك، فلماذا رفضه المفكرون، وأعرض عنه البشر !؟.
الإجابة تكمن في التعصب الفكري!
التعصب بعمومه هو شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد في التمسك بفكرة معينة يراها صوابا وما عداها باطل.
والتعصب الفكري أحد أشكاله وأخطرها، لأنه يغلق العقل دون مناقشة البدائل، ويحجب التنوع المعرفي، ويلغي دور البحث المحايد.
يظهر التطبيق العملي لذلك، في أننا نجد المتعصب ضد المنهج الإلهي يُسيّرعقله في اتجاه محدد يسعى لإثبات أنه على حق، وينتهج في ذلك سبيلا يوغل في اللامنطق شيئا فشيئا، حتى يصل الى العمى العقلي “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” [الحج:46].
لذلك فهو بداية يتوجه لإلغاء أساس الفكرة بالتكذيب بوجود الله، اعتمادا على كونه مغيبا عن المدركات الحسية، وعندما لا يجد دليلا واحدا يدعم فكرته لأنها مبنية على الشك أصلا وليس على دليل يقيني، يتحول الى التكذيب بالدليل المادي الذي يحمل هذا المنهج (القرآن)، فيقول أنه ليس من الله بل من وضع “محمد” (صلى الله عليه وسلم)، وعندما تكذبه الأدلة القاطعة مثل أمية النبي ووجود معلومات فيه لم يكن يعلمها البشر آنذاك، يمنعه التعصب من الرضوخ للحجة والدليل، فيقول إنه نسخه عن التوراة، فتتهاوى حجته بأدلة عديدة تثبت أن القرآن مختلف أساسا موضوعيا ولغويا، وان التشابه هو فقط في أسس العقيدة وقصص الأقدمين بسبب أن المصدر واحد.
والأدهى من كل ذلك عندما يسقط في الفخ الذي نصبه بتعصبه بقوله أن الفكر الإسلامي وضعي وليس إلهي، فتقول له: حسنا، اعتبره كذلك، فلماذا تناصبه العداء دونا عن كل الأفكار، وترفضه جملة وتفصيلا، فيما تتقبل بلا نقاش مقولات الأقدمين البدائية من مفكري الإغريق والقرون الوسطى معتبرا إياها قواعد ومرتكزات؟.
هكذا نجد أن آفة التعصب الفكري فتاكة، وربما كانت أهم أسباب شقاء البشرية وتخبطها الى اليوم، رغم تقدمها في اختراع ما يريح الحياة الظاهرية، إلا أن المعيشة النكدة هي السمة العامة لكل المجتمعات البشرية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى