
إرهاب على الريحة
المقال الفائز بجائزة القلم الحر
في مصر وعلى مستوى الوطن العربي لعام ٢٠١٧
في التاسع من أيلول من هذا العام وفي المساء تحديدًا دخلتُ إلى إحدى المقاهي القريبة من بيتي في عمّان، والتي اعتدتُ على الذهاب إليها، جلستُ على طاولتي المعتادة وطلبتُ قهوتي دون تحديدِ مقدارِ السكر فيها لأنني على ثقة تامة بأنّ “حمادة ” الصّبي الذي لم يتجاوز السادسةَ عشر من عمره على علمٍ تامٍ بأنني أشربها سادة، وما زال يمازحني بجملته المعتادة: “أهي سادة يا باشا مش عبيد”، أخذتُ القهوة وسَطَ كلِّ ذلك الضجيج وارتشفتُ أول رشفة حرة منها.
الكل مشغول في المقهى هذا يلعب “الطاولة” وذاك يلعب “الشدة” وآخر يعاقب “الأرجيلة” بشدّ آخر أنفاسها، إلّا أنّ نشرةَ أخبار الثامنة على قناة التلفزيون الأردني أسكتتْ الجميع حين بدأها المقدم الإخباري بهذه الجملة: “يصادف اليوم الذكرى الثانية عشر لحادثة الأربعاء الأسود التي تبنّاها تنظيمُ القاعدة الإرهابي في بلاد الرافدين، والذي أسفر عن مقتل سبعةٍ وخمسينَ قتيلًا وما يزيد على مئة وخمسة عشر جريحًا”، سكت الجميع حزنًا على هذه الذاكرة الإرهابية التي هزّتْ أرجاء العاصمة الأردنية عام ألفين وخمسة؛ فالذي كان يلعب “الطاولة” توقّفَ عن اللّعب وكذلك الذي كان يلعب “الشدة” وحتى صاحب “الأرجيلة” أعتقها لوجه هذا الخبر..
كان في المقهى عدة أشخاص أعرفهم جيدًا ولكنّ الذي لم أكن أعلمه فيهم هو حسّهم الوطني وحزنهم على هذه العملية، فأبو أحمد جاري الذي يضرب زوجته كل يوم وأحيانًا نضطر أن نخرج ليلًا كي نفكّها من بين يديه رأيتُه يلعن الإرهاب، ومازن الشحات والشحات ليس اسم عائلته بل كنيته حيث أجبر أبنائه الثلاثة على ترك المدرسة وممارسة مهنة الشحاتة في الشوارع وعلى الإشارات الضوئية، والذي توفّي ابنه الصغير دهسًا على إحدى الإشارات هو أيضًا لعن الإرهاب، وصاحب المقهى الذي في كلّ مرة يضرب فيها حمادة الصبي الصغير لأنه بطيء في العمل هو أيضًا لعن الإرهاب.
وحتى الأستاذ أيمن الذي يجلّه الكثيرون لمكانته كمعلم لعن الإرهاب وهو من يسمونه الطلبة “استاذ عصاية”؛ لكثرة ضربه للطلبة، كلُّ هؤلاء لعنوا الإرهاب ولا أدري لماذا لم يلعنوا أنفسهم معه، من الذي أقنعهم أن الإرهاب فقط يكون على شكل أحزمة ناسفة توضع على الخصر لتفجير الناس والمباني! أوليس ضرب الزوجة إرهابًا لها ولأطفالها؟ أوليس ضرب صاحب المقهى للصبي حمادة إرهاب له ولطفولته؟ ومازن الشحات أليس هو قاتل ابنه؟ وحتى الأستاذ أيمن أليس حزامه الناسف هو تلك العصاة التي يخوّف بها طلابه!!
للأسف الجميع يرى الإرهاب على أنه نار وانفجار والمُعضلة أنّ الكثير منّا يزرع بذرة الإرهاب في نفسه وفي من حوله دون أنْ يدري أو أنه يدري ولكنْ لا يعترف بخطئه، انتهت نشرة الأخبار وعاد الجميع إلى ضجيجه وكأنّ نشرة الأخبار لم تكن سوى فنجان قهوة لا سكر فيه للفرح، ولا سادة للحزن وإنما على “الريحة” كاستجابةِ من كانوا في القهوة لذكرى الأربعاء الأسود.
تمت المشاهدة بواسطة محمد العيسى في 04:47 م