أولويات وطنية / د . خالد غرايبة

أولويات وطنية
خلال عملي كمهندس تخطيط في شركة الاتصالات الاردنية في منتصف التسعينيات طلب مني ومن عدد من الزملاء الذهاب الى محافظة معان لاجراء المسح الميداني لتوصيل الخدمة الهاتفية لقرية نائية تبعد عن وادي موسى اكثر من ٥٠ كم.
لا اعلم لماذا طلب منا ذلك ولكن اعتقد ان سياسة الشركة في تلك الفترة كانت تقضي بتوصيل الخدمة لجميع انحاء المملكة ضمن مشروع وطني بالرغم من أن مدن كأربد والزرقاء وحتى عمان كانت تعاني من شح الخطوط الهاتفية في ذلك الوقت والتي كانت الوسيلة الوحيدة للاتصال قبل ظهور الهاتف الخلوي وانتشاره .
كانت المشكلة الكبرى اننا لم نتمكن من الحصول على مخطط للقرية من دائرة الاراضي في عمان لاجراء المسح علية فقررنا ان نذهب اليها مباشرة علنا نحصل على المخطط من البلدية او اي جهة اخرى.
وبعد رحلة طويلة تمكنا من الوصول الى القرية قبل غياب الشمس بحوالي الساعة. لقد وجدنا ان تلك القرية لا تحتوي على اكثر من عشر بيوت و يمر بها شارع وحيد معبد بطريقة بدائية تتناثر البيوت على طرفيه بشكل عشوائي ويسود السكون المطبق على القرية ليجعلها اشبه بمدينة اشباح ولا يكسره سوى ثغاء بعض الخراف او نباح بعض الكلاب.
لقد تمكنا من المسير من اول القرية الى اخرها بوقت قصير ثم هممنا عائدين الى وادي موسى للمبيت.
في صباح اليوم التالي ذهبت الى سلطة البتراء لاطلب مخططا للقرية فدخلت الى المبنى ووجدت المهندس المسؤول الذي رحب بي وسألني طلبي فقلت له انني احتاج لمخطط لتلك القرية من اجل توصيل الخدمة الهاتفية لها. عندها نظر الي باستغراب وقال: هل انت جاد في ذلك؟ ثم قال: هل تعلم ان تلك القرية لم تصلها المياه بعد وأن اهلها يعتمدون على الدواب في جلب المياه من عين الماء التي تلوثت مؤخرا وادت الى اصابة اهل القرية بأمراض شتى ثم تأتي أنت لتوصل لهم الهاتف الذي لن يستطيعو دفع فاتورته؟
تبسمت وقلت له ساخرا يبدو ان الدولة تريد ايصال الهاتف للقرية حتى يتمكن اهلها من الاتصال ببرنامج البث المباشر ليشكوا نسيان الحكومة لهم. ثم قفلت راجعا الى عمان فلم ارى حاجة الى زيارة القرية مرة اخرى لأن القرية اصغر من أن تحتاج مخططا لمسحها.
قد تكون مشكلة شح الموارد الطبيعية ونقص التمويل مشكلة مستعصية في بلدنا ولكن برأيي ان اكبر مشاكل بلدنا هي مشكلة تحديد الاولويات.
لا اعلم كيف تفكر الحكومات المتعاقبة ولكني اعلم انه يتم تعبيد الكثير من الطرق الزراعية في الوقت الذي تبقى فيه شوارع مدينة كإربد تعاني من حفرها، ويتم دفع الملايين لشراء مختبرات للحاسوب لمدارس نائيه تعاني من نقص المعلمين وسوء تغذية طلبتها الفقراء والذين يمشون كيلومترات للوصول اليها، ويتم تخصيص ميزانية بحث علمي في موضوع “النانو تكنولوجي” (والذي تم تحديده كأولوية وطنية ولا اعلم كيف) في الوقت الذي يعاني قطاع الزراعة من نقص البحث العلمي اللازم لحل مشاكله، ويتم فتح مراكز صحية شاملة في مناطق نائيه في الوقت الذي تعاني فيه مدن كبرى من سوء الخدمة ونقص الادوية في مستشفياتها.
اعتقد ان تحديد اولولياتنا الوطنية هو اهم اولوياتنا الوطنية.
ودمتم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى