أريد قبراً / محمد العيسى

” لا أريد شيئًا يا بنيتي سوى ان يتم دفع إيجار هذا البيت كي نظلّ مستورين فيه” …
هذا آخر ما قالته ” أم محمد ” لأختي بالله الدكتورة آلاء..
” أم محمد ” المرأة المستورة التي هاجمتها الحياة من كل جانب فصارت كما الشجرة اليابسة من قلة الماء؛ تهزها الريح من كل جانب فتجعل من أوراقها أضغاثَ أوراق، ومن ثمرها هباءً منثورًا ، تلك المرأة التي تزوجت من رجل كما نقول بلهجتنا العامية: ” زلمة قد حالو ” والذي كان يستيقظ كل صباح يسأل الله الرزق، وقد أخذ بكامل أسبابه إلا أنّ همجية البعض أدلتْ بدلوها على جسده لتجعل منه ” كيس ملاكمة ” يتلقى الضربات من كل مكان، ومن ثم الضربة القاضية؛ والتي جعلت منه إنسانًا مهزوزًا وذا نفسية مكسورة لا يتسطيع النوم ليستيقظ منه.

في كل يوم كانت ابنتها ابنة التسعة عشرَ عامًا وألمًا تنظر من بعيد حيث حاوية القمامة تراقب من يرمي بقايا طعامه فيها لتهرع إلى هذا الطعام وتلملم ما تبقى من كسرات الخبز التي أصابها ألمُ المضغ والقضم، فتأخذها إلى منفاها الأخير حيثُ فمِ الفقير فتطعم بها أمها وأخاها الصغير ووالدها العسير، ولكنها لم تكن تعلم بأن حتى هذه الكسرات نفذت من فم أمها اليوم؛ لأن من كانت تأكلها بالأمس ماتت اليوم!

اليوم ماتت ” أم محمد ” والسبب سرطان، ذلك المرض الذي لا يبقي ولا يذر، وببساطة معلوماتي الطبية أعلم بأنّ هذا المرض ينتشر بمسمى: ” الخلايا السرطانية ” وأعلم أيضًا بأنّ لهذه الخلايا منشطات ومثبطات وكل ما ذكرت يتم داخل جسد المريض، ولكني لم أكن أعلم يوما بأن الإنسان الآخر سيكون أحدَ منشطات هذا المرض؛ حين يُمنع علاجُه بحجة العبء المالي؛ فيعطي ذلك المرض اللعين ال ” جرين كارد ” ليدخل الجسد ولا يخرج إلا كما يحلو له.

اليوم ماتت ” أم محمد ” وكان آخر كلام لها بأنها لا تريد شيئًا سوى أن تبقى مستورةً في بيتها ولم تكن تعلم بأن جسدَها نطق بعد الموت ليطلب الستر في القبر، ماتت ولا تملك ثمن القبر في وطني الذي نغني له موطني موطني، ماتت ولا تملك مئتين وأربعين دينارًا ثمنَ القبر، عدا عن ثمن الكفن وأجرة إيصالها إلى مثواها الأخير، ماتت وحالُ جسدِها يقول: أريد قبرًا أريد قبرًا..

مقالات ذات صلة

نامي ” أم محمد ” بسلام، الآن قد حملتْ عنك الملائكةُ كلَّ هذا المرض، والسرطان في جسدك لم يعد له أية مهام، وأصحاب الخير جهزوا لك ثمن القبر والكفن والأجرة، وتكرموا أيضًا بيوم عزاء واحد لكِ كي يخففَ الناسُ عن أهلك ذلك الغياب المهيب، لكنْ أخبري اللهَ بأنه لا زال على هذه الأرض آلافٌ من أمثالك باختلاف الأسماء والمسميات، وهو أعلم بالحال…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى