أبي وأيامه الأخيرة …

#أبي وأيامه الأخيرة … / #محمود_العايد

في كل مرةٍ كان يسوء فيها وضع أبي الصحي كان على يقين أنه سيخرج أقوى، لكنه في المرة الأخيرة كان مستسلمًا للموت يمشي نحوه بخطىً ثابتة دون أن يبدي أي مقاومة، وكانت كل حركاته تدل على ذلك، إنه من رجل متمسك بهذه الدنيا بكل قوّةٍ ويحارب من أجل البقاء فيها تحول إلى رجل آخر قد أفلت الدنيا من يديه .. ليس حبًّا في الموت الذي أمضى حياته يهرب منه أو كرهًا في الحياة التي كان يطمح ألا يفارقها أبدًا، وإنما لادراكه الحتمي أن ساعة الصفر قد حانت، ويبدو أن ساعة الإنسان إذا حانت يعرف ملامحها، هذا ما لاحظته في أبي .. في هذه الأثناء أوصاني أكثر من مرةٍ أن أحضر له بناته كي يودعهن، ولقساوة المشهد، وصعوبة الموقف، وعدم تخيله تجاهلت طلبه لكني تفاجأت في اليوم التالي أي قبل وفاته بخمسةِ أيام فقط بحضورهنَّ إليه .. شعرت حينها أن عزاءه قد تمّ في حضوره، فقد أمضين ساعات طوال وهنَّ يبكين حوله حتى أني خرجت من المكان لصعوبته، ودموعي تذرف على خدي، وكان يومها خالي موسى شاهدًا على هذا الموقف، والحزن يلتف حوله، ودموعه تغرغر ثم قال لي: هذا لا يصح يا خالي، ويجب إحضار بناته إليه بشكلٍّ فردي وليس جماعي حتى لا يشعر بوحشةٍ كهذه الوحشة، قلت له: لا أدري من أحضرهنَّ إليه كان ذلك ظهر يوم الثلاثاء، وفي اليوم التالي أي يوم الأربعاء طلب مني أن أسعفه للمستشفى، لكني رفضتُ أن أُسعفه وحدي، وطلبت من أخي موسى أن يرافقني سوية معه، وكان موسى هو من يقود السيارة؟. وفي الطريق طلب من أخي موسى أن يتوقف بجانب أي معرش بطيخ ليأخذ لأخيه الدكتور حسين بطيخة، وبعدها نذهب إلى المستشفى، لكني اقترحتُ عليه:- بأن نأخذه إلى المستشفى أولًا، وبعدها نذهب إلى أخيك .. همس في أذني وقال إذا أخذتني ربما لن أعود، ودموعه تسيل على خده .. لم يكن يعلم أن السرطان كان ينهش جسده دون أن يشعر، وأن عضلة القلب قد ضعفت بشكلٍّ غير مسبوق، وأن قدماه لم يعودا يقويا على حمله بسبب هذا الضعف الذي اعترى عضلة القلب، وصلنا المستشفى وأدخلناه إلى قسم الطوارئ كالعادة ثم جاء الأطباء وأجروا له الفحوصات اللازمة، واشتبهوا بوجود بوادر جلطة دماغية فأمروا بتصويره فورًا ثم لحقني أحد الأطباء وأنا على باب غرفة الأشعة، وألغى التصوير، واستبعد فكرة الجلطة الدماغية، ولا أدري لماذا حتى هذه اللحظة؟. ثم قرّروا إدخاله إلى المستشفى كالعادة جهزنا له أوراق الدخول ثم طلبت من أخي موسى أن يغادر المكان وبقيت معه وحدي، حاولتُ أن أحجز له غرفة خاصة، لكن المسؤولة عن ذلك رفضت رفضًا قاطعًا متذرعة بأن القوانين قد تغيرت، وأن الغرف فقط لمن هم من رتبة نقيب وأعلى، فتلاسنت معها وقلت لها من أين آتي لكِ بنقيب؟. الإنسانية لا تعرف الرتب، واعتبريه مثل والدكِ، هل تقبلين له ذلك؟. كانت رتبتها مقدم لكنها رفضت طلبي، وفي صباح اليوم التالي أي يوم الخميس حاولتُ استعطافها وأعطتني وعدًا بأنها ستعطيه غرفة خاصة حال توفرها، علمًا أن الغرف متوفرة لكنه نوعًا من التصريف، وقتئذٍ همس في أذني النقيب طارق قائلًا بأنها تحاول أن تصرفك عن وجهها، فالغرفة متوفرة ولا تحتاج لشيء سوى موافقتها .. يئستُ من القصة، لكن النقيب طارق لم ييأس فجاءني وقت الظهيرة يوم الخميس ومعه مفتاح الغرفة، وطلب مني أن أنقله إليها دون أن يشعر الآخرون حتى لا يعترضوا .. أدخلناه الغرفة وجاءت أمي وبعض أخوتي وبعد أن عجز الممرضين عن القدرة على تركيب ابرة لسحب السوائل بسبب ارتفاع المميع في الدم، أخبروا الطبيب المختص بما حدث فجاء طبيب وطبيبة متدربان وحاولا أن يركبا الإبرة وحسبنا الله ونعم الوكيل في الطبيب المتدرب ثمّ تسامرنا وتحدثنا معه برفقة أمي وأخي بلال وسلامة، وفي الليل خرجتُ كالعادة أبحثُ عن عشاء في كافتيريا المستشفى، وعندما عدتُ إليه كان ينظر لي بطريقة غريبة .. سألته هل تريد شيء؟. أشار بأصبع السبابة لا .. جلست على الأريكة، وأمسكت جوالي وبدأت أُقلب فيه كالعادة ثم قال لي:- أنا بموت يا محمود وكرر هذه الكلمة مراتٍ عديدة، وكنت أجيبه العمر لك والطريق أمامك طويل، فلا تقلق، وفي صباح يوم الجمعة جاءت أختي ونجلها محضرة معها وجبة الإفطار لكنه تناول قليلًا منه، وقال إن الأطباء قتلوني بالإبر ثم غادرت أختي على أن تأتي في اليوم التالي ثم ذهبت لأصلي صلاة الجمعة، وبعد الصلاة جاء ابن عمّي د. يوسف العايد وزوجتيه وابنه عاصم لزيارته ودار بينه وبينهم حديثًا مطوّلًا ثم جاء كل أخوتي وزوجاتهم وأبناءهم بلا موعد ودون تنسيق مسبق، وكذلك أخواتي وأزواجهنَّ وأبنائهنَّ بلا تنسيق ثم جاء عمّي أيضًا بلا تنسيق مسبق .. اجتمعوا جميعًا معه وضحكوا سويًّا، وجودهم بهذه الطريقة وبلا تنسيق أوحى لي أن شيئًا ما غريب سيحدث لكنه مستبعد اخيرا الموت ثمّ غادرت من عنده يوم الجمعة، وبقي أخي موسى ملازمًا له، وفي الطريق طلبتْ مني أمي أن أقف عند محل الملابس كي تشتري له ملابس داخلية، وفي صباح اليوم التالي أي يوم السبت رن هاتفي فإذا به ابن خالي أحمد سليمان يسأل عن صحة أبي، أخبرته أنه جيد وأننا في طريقنا إليه.. ذهبنا إلى المستشفى جلسنا معه ضحكنا سويًا قال كلامًا كثيرًا يُحظر كتابته على مواقع التواصل كان كاملًا مختلفًا عن كل مرّةٍ وقاسيًّا للغاية لدرجة أن أنفاسك تُحبس وقلبك ينقبض لمجرد سماعه، ولم يسبق لي أن سمعته يتحدث بهذه الطريق، وأتذكر أني كنت جالسًا فوقفت يومها وقاطعته قائلًا: دع عنك الصغار والكبار والمال وأمور الحياة وانتبه لنفسك ثم خرجت من عنده أبحث عن الطبيب لأسأله عن وضعه الصحي، فإذا بالممرضة تخبرني بفحوصاته، فأدركت وقتها أن الوضع لا يطمئن .. مع العصر أي عصر السبت قرّر أخي موسى أن يغادر المستشفى، وأصرَّ أبي إصرّارًا على بقاء أمي، وطلب منها أن تبيت عنده وأومأت لها بالموافقة ثم استأذن موسى من أبي بالذهاب فأذن له لكنه رفض أن تغادر أمي معه .. قلت له وعد إلا بكرة تنام عندك لكنه رفض، وأصر على بقاءها وفي النهاية الحديث اقتنع .. غادرت أمي وموسى المستشفى ثم جاء أخي إبراهيم وزوجته وجلسا يتحدثان معه، فجأة أعطاني حبّة دراق كان قد أحضرها له ابن العم الدكتور يوسف، وطلب مني أن أأكلها أخذتها وقسّمتها إلى أجزاء ثم وضعتها في فمه أكل الجزء الأول منها، لكنه لم يستطع إكمال الأجزاء الأخرى، ولسوء حظي شهد القسم في ذلك اليوم ثلاث وفيات، وكان هناك شاب في منتصف الأربعين من العمر من بني حسن برفقة والده وكان وضع والده حرج للغاية .. خرجت من عند أبي لأرى ماذا حل بوالد هذا الرجل؟. وصلت إليه فإذا بالأطباء من مختلف الرتب يقفون حوله، فجأة وبصوت عالٍ وبصراخٍ غير مألوف ينادي إبراهيم تعال شوف أبوي .. هرعت مسرعًا أمسكت يده ذكرته بالشهادة، لكني لم أكن أدرك أنه قد فارق الحياة، نادى إبراهيم على الممرضة فجاءت بسرعة فائقة، لن أنسى كيف ركلت السرير بقدمها بقوةٍ هستريةٍ، وبدأت برفع المغذيات عنه بصورة أشبه ما تكون بأفلام هوليود، واتصلت بزميلها النقيب طارق، وبسرعة جنونية أخذوه لغرفة الانعاش القلبي ثمَّ أحكموا إغلاق الباب ومنعونا من الدخول وبدؤوا في عملهم، كل ذلك حدث في غضون دقيقة، وقتئذٍ أدرك إبراهيم أن أبي قد مات قبل أن يخبروه بذلك، فبدأ يتصل بأخوتي وهو يبكي الحقوا أبوي دخلوه الانعاش ويمكن تلاحقوه ويمكن لأ .. أما أنا كنت أجلس في زاويةٍ من زوايا المستشفى، وأبكي دون أن أعرف شيئًا مع أن فكرة الموت كانت مستبعدة من ذاكرتي ولم تكن تراودني مطلقًا رغم كل المؤشرات التي تدل على موته، بعد قرابة عشرين دقيقة خرج النقيب طارق وزميلته والطبيبة المتدربة دون أن يتحدثوا معنا بكلمةٍ واحدةٍ، ويكأنهم لا يعرفوننا البتة، سألهم إبراهيم وهو يبكي كيف الولد؟.. كان جواب النقيب طارق الله يرحمه، ويكأنها صاعقة أصابت قلوبنا .. لا أتخيل أني سأنسى هذا الموقف، وصدى هذه الكلمات التي كانت بمثابة قنبلة انفجرت في قلبي وليس جوارحي. لم أستطع الحديث مع أحد اتصلت بابن العم د. يوسف وأخبرته بذلك فإذا به يبكي ثم اتصلت بإلياس وأخبرته أن يخبر أبيه أن أخوه قد فارق الحياة، ٢١ يومًا عاشها بشكلٍّ مختلف عن باقي عمره، هبوط ضغط شديد ومستمر .. يا كرام أُشهد الله عزوجل أن أبي لاقى ربه صابرًا محتسبًا مقبِلٍ غير مدبرٍ فطيلة مرضه لم يسخط أو يعترض أو يضجر وكل ما كان يفعله أن يرفع أصبع السبابة ورأسه نحو السماء ويقول بجاه نبيك محمد تشفيني يا رب، وأشهد الله أنه مات وليس في قلبه ضغينةٍ على مسلم .. واليوم وبعد مرور بضعة أشهر على وفاته أدركت أشياءً كثيرةٍ يصعب قولها ويستحيل اداركها .. بالمختصر كان الفارق شاسعًا بين حضوره وغيابه. ولا تصفه كل الكلمات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى