نور على نور

نور على نور

د. #هاشم_غرايبه

في زيارتي الوحيدة للرياض قبل عشرين سنة، بدعوة رسمية لحضور مؤتمر طبي كممثل للأردن، كوني كنت نقيبا لأطباء الأسنان، أدهشني أن التقاليد الاجتماعية (ولا أقول الدينية)، كانت فيها مفرطة في التشدد بكل ما يتعلق بالمرأة، طبعا زرت مكة والمدينة وجدة مرات عديدة، ولم ألحظ فيها ذلك التشدد، لذلك اعتقدت أن التشدد سمة اجتماعية ولا علاقة بها بالتدين.
انتهزت فرصة وجود أطباء أسنان أردنيين محاضرين ومشتركين في المؤتمر، ممن يعملون في مناطق شرق الجزيرة العربية، فالتقيت بهم في قاعة الفندق، بالطبع كانوا ذكورا وإناثا، ولم أنتبه الى النظرات الغاضبة التي كان يرمقنا بها العاملون في الفندق إلا عندما جاءني زميلي النقيب السعودي يطلب مني فض الاجتماع بسرعة قبل أن يتصل أحدهم بشرطة (المطوعين) بسبب وجود رجال ونساء في مكان واحد.
يقال أن هذه الحالة المريعة من حظر التقاء الرجل بالمرأة قد خفتت الآن بسبب التحولات العلمانية التي فرضت في السنوات الأخيرة، لكن السؤال لأولئك المتشددين الذين كانوا يصرون عليها باعتبارها متطلبا شرعيا تحرم مخالفته.. كيف سكتوا بل وأيدوا هذه (التطورات)، فكانوا يفتون بحرمتها والآن يحلونها!؟.
هل نزل قرآن جديد نسخ ما كانوا يعتبرونه حراما!؟.
الحقيقة أن المشكلة دائما ليست في تشريعات الدين، فهي ثابتة لا تتغير، ولذلك نزلت جميعا في كتاب الله الذي لا يمكن تزويره، المشكلة في فهم هذه التشريعات على حقيقتها، مستقلة عن الهوى الاجتماعي والتوظيف السياسي.
ورغم أنه لا يوجد أي تشريع جاء بالسنة الشريفة، بل ما ورد في صحيحها هو مجرد تفصيل للتشريع الذي جاء مجملا في القرآن الكريم، أو تخصيصا للمعمم منه، أو تفسيرا بالتطبيق العملي له.
رغم ذلك فقد ألبس المغرضون من الرجال المصابين بمرض الوسواس، المرتبط دائما لمعرفة هؤلاء بضعف مقاومتهم لإغراء الجنس، لذلك لا يطمئنون لإخلاص زوجاتهم، فألبسوا هواجسهم لبوسا شرعيا، ولما لم يجدوا ما يوافقهم في أصل التشريع (القرآن الكريم) لجأوا الى ابتكار فكرة نسخ القرآن بالسنة، ليجيزوا ألغاء التشريع الإلهي الذي يعتبرونه متراخيا فيستبدلوا به ما يوافق أهواءهم من أحاديث ضعيفة أو روايات مجتزاة، حورها مشاكلوهم عبر القرون، بما يعزز هواهم وغرضهم.
وهؤلاء هم المتنطعون الذي حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالمناسبة فهم ليسوا ندرة، بل كثر وذوو تأثير في المجتمع عريض، ولعلو صوتهم أرعبوا الأغلبية المعتدلين، فأسكتوهم عن التصدي لهم خوفا من رميهم بتهم التفسيق والتكفير، فاستفردوا بالفقه بعد إذ أحجم الآخرون عن دحض آرائهم.
يرجع الكثيرون استفحال ظاهرة التشدد في شرق الجزيرة العربية، وبأكثر من باقي مناطق الجزيرة كالحجاز مثلا، الى أن نشأة الوهابية كانت في نجد، ومنها انتقلت الى غيرها، لكن ربما أن غلبة الفكر المتشدد في تلك المناطق هو ما ساعد على انتشارها.
الأصل في الفكرة التي جاء بها بن عبد الوهاب كانت التمسك بالسنة وبما فهمه منها السلف الصالح، واكتشف الإنجليز مدى قوة الرابط الديني، فوظفوا الفكرة لإبعاد الناس عن المطالبة بإسلامية نظام الحكم، فمارسوا اجتباء شيوخها بالمال والسلطة، التي ربطوها بمدى الولاء للعائلة السعودية التي نشأت في نجد، وكان منافسها القوي القيادة القبلية لابن رشيد، ولما كان ابن سعود من عائلة غير عريقة كآل رشيد، فقد نصحوه بتعويضه بالغطاء الديني الذي توفره هذه الفرقة الناشئة، فقايض فتاويهم بضرورة طاعة ولي الأمر، مقابل التمكين لهم بتخويلهم بإنشاء فرقة من أتباعهم اسمها المطوعون، أغلبهم أميون لا تلزمهم مؤهلات غير الانتساب للحركة، عملهم الحث على التمسك بالشريعة بحسب ما يحددها شيوخهم.
يبدو أن الدولة أحست مؤخرا بأن هؤلاء أصبحوا حملا زائدا ومعاكسا لتوجهاتها العلمانية، فقلصت نشاطهم بشكل كبير، فانقسم شيوخ الحركة المعاصرين الى فريقين: الصادقين في دينهم عارضوا فأودعوا السجون، والمستعطين باعوا آخرتهم، فأيدوا وبرروا الانحراف، فأفتوا بجواز مخالفة ولي الأمر لما حرمه الله من موالاة اليهود والنصارى، بل أجازوا التحالف معهم في محاربة مسلمين، إن رأى في ذلك مصلحة للبلاد.
الآن وفي عصرنا هذا فهمنا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا قالوا: وفي نجدنا، فأعادها مرات، ثم قال: هناك قرن الشيطان”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى