نور على نور

نور على نور

د. هاشم غرايبه

يحلو لغير #المؤمنين من #ملحدين أو لا دينيين، ترديد مقولة لا يسندها دليل ولا يثبتها الواقع، وهي أن #الدين نقيض الإنفتاح العقلي، وان الإيمان بالغيبيات يقيد #العقل ويريحه من بذل الجهد.
الحقيقة أن مصدر قناعاتهم هذه ناجم عن #الجهل بجوهر الدين ومقاصده، فهو على العكس تماما، يفتح للعقل آفاقا لا نهائية من خلال التأمل والتفكر والتدبر.
فالتأمل في بديع صنع الله من آياته التكوينية يقود الى فهم #القوانين المتحكمة فيها ومن ثم الى استخدامها في نفع البشر وتسهيل معيشتهم.
والتفكر في #آيات الله الكونية يؤدي الى اكتشاف نواميس الكون مما يوسع المعارف ويزيد من قدرة #البشر على الإنتفاع من قدرات #الطبيعة الجبارة والطاقة المختزنة فيها.
أما التدبر فهو ربط النتائج بالمقدمات مما يعزز المكتسب البشري من الحكمة، والتي تقدم الحلول والإجابات.
كل ما سلف ممكن للمؤمن ولغير المؤمن، لكن الإيمان يعظم جني النتائج لما يصاحبها من استقرار نفسي واطمئنان روحي، وذلك ناجم عن الرجاء بتوفيق الله الذي يسدد خطى الساعي في الخير، ويحقق مراده.
إن انتظار العون من الله ليس أمرا يهدف الى إراحة النفس وتخفيف القلق فقط، بل هو الوسيلة الأخيرة عند المؤمن عند بذل قصارى الجهد ومن ثم التوكل على الله.
في بعض الأحيان قد لا يكون هنالك من وسيلة بيد المرء، كأن يحيق به خطر داهم أو مصيبة في جسده أو ماله أو ولده، عندها تنقطع كل السبل، وهنا يتميز المؤمن فلا ينقطع عنده الرجاء بعون الله، ووسيلته الدعاء.
يطلق على سورة الأنبياء “سورة الإستجابة” لأنها السورة الوحيدة التي ورد فيها لفظ “فاستجبنا له”، ليس مرة واحدة بل أربع مرات، وجميعها كانت بشرى باستجابة الله إثر دعاء أنبيائه له بعد أن استنفدوا كل جهودهم وانقطعت لديهم سبل الرجاء إلا من الله:
“وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ”.
“وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ”
“وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ”.
“وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ”.
قد يعتقد البعض أن الحالات المذكورة هي جميعها لأنبياء، وأين نحن منهم، لكن المتأمل فيما يتبع كل حالة يجد أن الله تعالى ذكرها كمثال يقاس عليه، ويستدل به، وليست كحادثة تاريخية مرّت وانتهت.
ففي حالة نوح عليه السلام التي دعا فيها الله أن يهلك قومه الذين لم يستجيبوا له بعد 950 عاما من الدعوة، يبين لنا تعالى أنه يمكن ينصر فردا مؤمنا متمسكا بعقيدته ولو كان ضده كثرة غالبة متجبرة.
وفي حالة ايوب عليه السلام، استجاب الله له: “رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ”، أي ليتعلم منها العابدون الطائعون لربهم، أن الدعاء هو المنجي مهما اشتد الكرب.
وفي حالة يونس عليه السلام، كانت الإستجابة لتسبيحه وذكره واستغفاره لذنبه، ولم تكن حالة خاصة، إذ بين أنها سنته العامة في المؤمنين المسبحين المستغفرين: “وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ”.
أما زكريا عليه السلام، فبين لنا تعالى سبب استجابته له لأنه وزوجته: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ”.
نستخلص من كل ما سبق أن الدعاء مستجاب من الله إن كان عبر قناة واحدة على الأقل من القنوات التالية: الصبر على الأذى في الدعوة، والثبات على طاعة الله ولو عصاه كل الناس، والتأدب مع الله ، التسبيح والذكر والإستغفار الدائب، المبادرة لفعل الخيرات، والخشوع لله.
الاستجابة ليست تحققا فوريا للطلب، فقد تأتي على وجوه كثيرة، فقد تكون بزوال الغم ماديا، وقد تكون بسكينة تحقق الراحة النفسية مع تعويض بتغيير أفضل من المأمول، أو بتعويض بنعمة أنفع في مجال آخر، وفي أحيان قد يؤخر الله الاستجابة قليلا ليمتحن صبر المؤمن، وقد يجد الله في موازينه ما لا يكفي لإثقالها، فيستبدل بها حسنات تثقلها يوم الحساب.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى