حين سكت الجميع / وائل مكاحلة

حين سكت الجميع
في حيي الذي أقطن ثمة جمعية خيرية إتخذت من “الأقصى” إسما لها، ودكانا للبقالة سماه صاحبه “الأقصى” شوقا لتلك الديار، ومطحنة “الأقصى” قريبة من بيتي لا تبعد عنه أكثر من مرمى حجر بيد طفل لم يعتد أن يرشق أحدا، هناك أيضا مدرسة ومغسلة ومتجر ألعاب ومحل لبيع الخضراوات وآخر لبيع الملابس… كلهم يشتاقون كما أشتاق وتشتاق ونشتاق، نشتاق يوما يغدو فيه الأقصى محجا هينا للمسلمين جميعا، لا كما أراه اليوم.. مجرد إسم نتيمن ببركته ليزيد الرزق ربما…!!

العرب هم أولاد الساعة.. إذا ما غابت السقطات خلف خطوط أعمارهم نسوها كما ينسون المرار الساكن في حلوق الأجداد، حين وقف عبد المنعم رياض عام 67 صارخا من الغور “عنب عنب”.. لم يسمع العرب صراخه !!.. جنود دول بأكملها تقف منتظرة أن ينضج العنب على شفتي الفريق رياض، ويبدو أن الإنتظار قد طال فكانت الغفوة، نضج العنب وتخمر وسقط عن داليته معلنا سقوط أمة بكاملها وجنود العرب متأهبون كعباس الذي يصقل سيفه وراء المتراس، بحث العرب عن موجة صوت العرب على الراديو إعتزازا بصوت العرب الذي كان ينقل أحداث الحرب الدائرة كأنها مباراة كرة قدم..

– الطائرات المصرية تطيح بستين طائرة للعدو حتى الآن
– الجيش السوري على مرمى البصر من كريات شمونه
– الجيوش العربية على وشك دخول تل أبيب
– الجيوش العربية تسجل الهدف تلو الهدف

إستيقظ العرب كي يهنؤوا إخوة لهم بتحرير أرضهم، وإستيقظ أصحاب الدار فرحين ليوضبوا حقائبهم ويعدوا عدتهم للعودة.. التهاني تلعثمت على شفاه مردديها في السر، والحقائب سُفحت أحلامها برؤية النور ثانية، والعودة أُجِّلت قصتها في إنتظار فصول مسرحيتي مدريد وأوسلو، تبين فيما بعد أن مذيعي صوت العرب كانوا يبحثون عن طائراتنا في الأعلى حيث ينبغي لها أن تكون، لم يتوقع أحدهم أن طائراتنا قصفت على مدرجاتها قبل أن تقلع !!

منذ تلك الحادثة والعرب يديرون إبرة المؤشر بحثا عن إذاعات مونت كارلو ولندن، ليس تكذيبا للعرب طبعا (حاشى وكلا).. لكن الأجانب يرون بشكل أفضل، هم ينظرون لنا من خارج الملعب، ونحن غص فينا الملعب والجمهور يطالب بــ “كرت أحمر” لدويلة قبعت في الجسم العربي كالسرطان وتمددت دون أن يوقفها أحد..

في عام 73 تبادل العرب التهاني على إنتصارهم المزعوم قيد العبور، العبور تم وقطعت السبل لأنابيب النابالم.. هذا حق، لكنني حتى الآن أحاول تفنيد الحقائق لأهنئ نفسي على النصر المؤزر الذي لم يُعد أرضا منهوبة في الغرب أو في الشمال، القنيطرة خلت من سكانها والجولان أصبح كــ “جوانتانامو” يخفي خلف الشيك آهات المتروكين بلا أمل، سيناء عادت بالتسليم، وخلف التسليم بنود لم نرها ولم نقرأها.. ربما لا أمل لنا بقراءتها، لكننا نرى نتائجها !!.. أي نصر ذاك الذي يعيد عدوك خلف خطوطك ليحتل مدينة آمنة كنت تظنها خارج حسابات الحرب؟!.. أي نصر تعود بعدها لطاولة المفاوضات مكبلا بعار الهزيمة لتسلم وتستسلم؟!.. أي نصر ذاك الذي تطالب بواسطة “كارتر” لتخفي ندوبه البشعة؟!!

منذ تلك المذلة صمت العرب.. يزهو الإنسان بانتصاراته، لكن الهزيمة ثقيلة على اللسان والسمع والذاكرة، كما قال العرب الأولون: “الهزيمة يتيمة.. وللنصر ألف أب”.. حتى الذين يحتفلون كل عام بغنتصار لم يتحقق، لم يسألوا التاريخ ليفتيهم في شرعية احتفال بلا شرعية، لم يسألوا آباءهم.. ولو سألوهم فالنتيجة واحدة.. الجميع مخدوعون…!!

أيعود الأقصى؟.. سؤال يصدح به قلب من كل مترع بالخيبات كل يوم، سؤال أقرأه على لافتات المحال التي تحمله مثقلة بالألم بلا أمل، سؤال رددته أجيال سبقت من سبقونا بالدموع وردده من سبقونا بالقلق، ثم جاء جيلنا ليردده على إستحياء: “أيعود الأقصى؟؟”.. سؤال مزجناه بالمناجاة المتبلة بالذل للخالق عز وجل، كي ينبت السؤال رجاءا.. وينبت الرجاء دعاءا، لا نفعل شيئا سوى أن ندعو الله ونناجيه: “يا رب.. أيعود الأقصى؟؟”..

لا أدري.. لكن تلافيف الذاكرة المتعبة التي أحملها ترى فيم يرى الهائم عجوزا تضع يدها لتلامس المفتاح الصدئ المعلق في نحرها، حتى إذا ما إرتعشت يدها بفعل دمعة مست تيار الحزن على وجنتها المتغضنة قالت: “الله ما بيسمع من ساكت يا بنيي”…..!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى