من ذاكرة البدوي 3 / منصور ضيف الله

من ذاكرة البدوي 3
في القدس يتناثر الطفل ، يتوزع إلى منمنمات مزخرفة ، نتف غير مرئية ، تحلق به في فضاءات واسعة من عوالم مدهشة ، ساحرة ، وغريبة ، يقصر عنها الوصف ، وتعجز دونها اللغة ، تتمدد ما يشاء لها التمدد ، ثم ترتد ، وتلتم في أعماق الروح ، لتعيد تشكيل الذاكرة وخزانها بصور ما زالت تزداد غرابة ودهشة حتى اليوم .

غروب القدس لا تحوطه عين ؛ خيوط الشمس تتسلل بخفة من قبة الصخرة إلى صلبان الكنائس ، تعانق المآذن ، تصافح الأبنية الحجرية ، تمسح الدور والشوارع ، تلثم وجوه الناس ، وتلتف بحركة دائرية لتشمل كل شيء ، فيشتعل صمت المدينة أجراس كنائس ، وتوحيد أذان ، والطفل يرقب اللوحة المتناغمة ، يطير اليها ، ثم يغرق في تفاصيلها ، وشيئا فشيئا يذوب في جلال العظمة والإبداع .

على رأس التلة المجاورة تقع مدرسة أحمد سامح الخالدي ، الأيام الأولى كانت صعبة ، فجأة صرت طالبا ، على كتفي حقيبة القماش ، فيها أشياء أراها لأول مرة ، ولأول مرة أعرف معنى النظام والالتزام . أذكر أستاذي أبو حسن ، ببذلته الأنيقة ، وعصاه المعكوفة ، وتلك الحروف الغريبة التي يرسمها على اللوح ، وما زلت أستذكر الألم الناجم عن عجزي عن القراءة . يومها كنت أعود إلى البيت باكي القلب حزينا ، فكيف لغيري أن يقرأ ، ولي ان أظل صامتا خجولا؟ ؟

ثمة مشهد مؤثر وعميق ، شقيقتي الكبرى التحقت بالمدرسة المجاورة ، طالبة بدوية أشتهرت بقرونها ، وثمة معلمة ألتقطت المشهد ، في الطابور كانت تأتي إليها مباشرة وتمسك بقرنيها ، وتمسدهما بكل حنان وشوق ، وتعيد سؤالها الدائب : من وين ؟ من الاردن ، وتزداد المعلمة تشبثا بشعر البدوية ، كل صباح يتكرر المشهد ، فيما بعد علمت شقيقتي أن معلمتها هي ليلى الكركية ، هناك في القدس ألقت بها عصا النوى ، بعض هنا ، وبعض هناك ، وظل حنين الكرك ، وشوق الكرك ، بعض الكرك في القدس ، ومن المؤكد بعض القدس في الكرك ، أيتها السياسة ، كم نحتقرك !!!

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى