المعلمون والرضا عن العمل!

المعلمون والرضا عن العمل!
الدكتور ذوقان عبيدات
*

لا أدري ما دوافع الصديق أسعد عبد الرحمن في طلب الكتابة عن المعلمين، ومصادر الرضا وعدم الرضا عندهم ! هل يريد إيقاظ الإحساس بالمعلم خاصة أنه يمر بأحلك ظروف العمل حاليا. طبعا أتحدث عن ظروف كورونا، وكيف فرضت على المعلمين أن ينتقلوا نقلات لم يستطيعوها عبر ألفي سنة، فالمعلمون لم يتقنوا أداء العمل التقليدي، وهو التعليم المباشر، وما زالوا يتدربون على إدارة الصف، واستخدام السبورة، والحوار مع الطلبة، وهي مهارات بدائية كان يمكن إتقانها منذ نشأة التعليم المباشر! ومع ذلك يطلب منهم الانتقال إلى التعليم عن بعد بما يتطلب ذلك من ثقافة جديدة لم يؤمنوا بها يوما، وأدوات جديدة لم يعرفوا عنها يوما! وأساليب جديدة لم يمارسوها يوما! إذن، لا هم أتقنوا القديم ولا هم مستعدون للجديد! وهذه هي الإشكالية الحالية! كيف تنقل المعلمين “برضا”من قديم لم يتقنوه ولكنهم ألفوه، إلى جديد لم يألفوه ولكنهم لا يؤمنون به !!
مفهوم الرضا وعدم الرضا: في الكلام الإنشائي وحتى العلمي _ حيث لا فرق_ تتفق مئات البحوث على أن الرضا هو قبول المعلمين لمهامهم وربما اعتزازهم بها وإتقانهم لها في بيئة تشعرهم بالأمن والمكانة. وعدم الرضا هو عكس ذلك!
أما مصادر الرضا – وهي نفسها مصادر عدم الرضا- فهي: الإحساس بالإتقان وعدمه، المكانة المجتمعية وضعفها، البيئة المدرسية وجودته، ظروف العمل والدخل، دعم الإدارة والإشراف، الإحساس الذاتي بقيمة العمل والإنجاز والإنتماء.
هذا ما كشفت عنه البحوث جميعها، حيث ترتفع درجة الرضا وتنخفض حسب مدى توافر هذه العوامل! طبعا ليس في هذا جديد، وقد لا تكشف بحوث جديدة عن عوامل إضافية .
إذن، ماذا يريد أسعد عبد الرحمن؟ لقد قطعت جهينة قول كل خطيب ! أو هل غادر الشعراء من متردم؟ أو أن القول ما قالت حذام؟ طبعا لن أجيبه بهذا الجواب البديهي، فهذا يعرفه القاصي والداني. بل إن بحوثا عديدة ربطت بين درجة الرضا والإنجاز، وبين كل عامل ودرجة الرضا! فالبيئة تحقق رضا بنسبة كذا، والدخل بنسبة كذا، وهكذا… إذا عَمَّ وبم أجيب أسعد عبد الرحمن؟
من هو المعلم المحترم؟: للإجابة، عدت إلى نفسي قليلا مُستَبْطنًا. ما الذي أرضاني كمعلم! وما الذي أزعجني أيضا!
كنت في بداية عملي أحمل شهادة الدراسة الثانوية، ودون أي تأهيل أو تدريب أو إرشاد، أعلم طلبة خمسين في الصف الأول الابتدائي. ولم يكن لدي من الرضا سوى مصدر واحد هو : “ أنني معلم في المدينة حيث أهلي “
وأنني أمارس سلطة الصراخ على الطلاب . أما مصادر عدم الرضا فهي طاغية، مثل عدم الفاعلية، وضعف الإنجاز، وقلة الحيلة، وعدم القدرة على إدارة الأمور.
وخلال سنوات عملي معلما في المدرسة الابتدائية، تطورت لدي عوامل رضا أخرى مثل وجود أصدقاء معلمين، وإتقان بعض مهارات التدريس، والحصول على قدر يسير من تقليد زملاء آخرين. لكن مصادر عدم الرضا ما زالت كما هي تتعمق كمعلم بقوة السلطة، حيث أستطيع أن أفعل ما أشاء، وأقرر ما أشاء، وأقرب من أشاء بغير حساب!! فالمعلم امتلك بلغة هذه الأيام حرية أكاديمية وغير أكاديمية بدرجة عالية.
إذن هناك ثبات بمصادر الرضا ومصادر عدم الرضا.
فالفجوة بين المعلم والمجتمع ليست كبيرة، والفجوة بين المعلم والتكنولوجيا ليست كبيرة أو موجودة. فالمعلم أتقن كل مهارات العصر، ولعل هذا سبب أو مصدر الرضا!! طبعا كان ذلك في الستينيات من القرن الماضي. فالثبات والجمود كان مصدر رضا مهم. بقي المعلم راضيا، قانعا متقنا لمهارات عهده، واثقا من كامل سلطته. وكانت هذه عوامل تشعره بالاحترام.
المعلم والتكنولوجيا: وفي سنوات السبعينيات، طلب من المعلمين الإفادة من تكنولوجيا العصر، وهي المجلات، الإذاعة المدرسية، المسجل الصوتي، الراديو، التلفاز!! هنا شعر المعلم بالخطر، ورفض كل هذا باعتبارها عوامل جديدة سوف تقصف بمهاراته. فزادت عوامل عدم الرضا. وعاد ليتمسك بالطبشورة والسبورة والعصا التي ما تركها يوما!!
انزعج المعلم من هذه التطورات، وصدرت قوانين تحرم استخدام العصا، فصارت العصا مخالفة للقوانين، وبذلك كان المعلم أمام خيارين : المحافظة على السلطة ومخالفة القانون أو التفريط بالسلطة واحترام القانون!
كان هذا عاملا أو مصدرا من مصادر عدم الرضا. وزادت أو تكاثرت مصادر عدم الرضا خاصة مع حث الوزارة على استخدام التكنولوجيا.
المعلم وحقوق الإنسان: ومع الستينيات فصاعدا، دخل عاملان جديدان: تدخل الآباء في شؤون المعلم، وتنامي حركة الحريات وحقوق الإنسان. وانتهت مرحلة السلطة المطلقة !!
كان يقال للمعلم : أنت موكل بتعليم أبنائنا بكل الوسائل الممكنة: ضربا، حبا، قهرا،، ظلما. ولكن ظهور حركة حقوق الإنسان صار الحديث عن: حرية الطالب، كرامة الطالب، حق الطالب، حق الأهل. فقد المعلم مساحة هائلة، لأن عليه أن يعلم دون ضرب، أو قهر، فلم تعد له “حرية أكاديمية” : لك اللحم ولنا العظم! بل صار النظام والأهل يحاسبان على كل ما يجري، فزادت عوامل عدم الرضا .
وقد ترافقت هذه المرحلة مع عمليات تأهيل المعلمين وتدريبهم ورفع مستواهم إلى الدرجة الجامعية. فهل هذا عامل للرضا أم لعدم الرضا؟
ليست الإجابة واضحة. فهناك من رأى أن المستوى المحدود للمعلم كان يشعره بالرضا وقبول الواقع: كالدخل وحجم العمل وبيئة العمل. لكن حين صار المعلم جامعيا وحاملا لدبلومات وماجستيرات وغيرها، بدأ يبحث عن مستويات جديدة من العمل!. صار يريد وظيفة بحجم مستواه التعليمي. وصار يريد مكانة بحسب درجته الجامعية، وظروف عمل جديدة، ودخلا جديدا، فهل هذا مصدر رضا أم عدم رضا؟!، إذن! تدخل الأهل، وخسارة الحرية السلطوية، وارتفاع المستوى التعليمي أو المؤهل، لم تكن مصادر رضا. فالقضية يا صديقي أسعد، ليست بهذه البساطة.
المعلم والمجتمع: يقال – وأنا أؤيد- أن المعلم يواجه مشكلتين مع المعلم. إحداها من صناعته والأخرى لا دخل له فيها. أما تلك التي من صناعته فهي أنني لم أشاهد معلما أو تربويا من الوزارة في أي حفل موسيقي أو مبادرة رياضية، أو محاضرة أو معرض فني أو ندوة سياسية . فهل هذا نتيجة لعوامل عدم الرضا ؟ هل المعلم محبط لدرجة عدم الرغبة في مشاركة المجتمع في حفل بهيج؟ ولم أسمع بمعلم قاد ندوة باستثناء ما حصل في فورة نقابة المعلميين أو صار فنانا أو لاعبا أو قائدا حزبيا، أو اجتماعيا.
فالمعلمون معزولون أو عزلوا أنفسهم عن بهجة الحياة! طبعا أستطيع التوسع في هذا لكن لا أريد إزعاجهم!
أما ما ليس للمعلمين علاقة به فهو – وهذا ليس تحليلا- إن المعلمين من طبقة مجتمعية ليست متوسطة أو فوق المتوسطة. فالمعلمون باستثناء بعض المعلمات وهن قليلات هذه الأيام، ولكنهن قدن نهضة التعليم منذ نشأته، كن من الطبقات الراقية مما جعل تعليم البنات ومدارس البنات متميزا، وجعل مدارس البنات أكثر أناقة وجمالا ونظافة.
ولكن ما ان دخلت طبقات نسائية جديدة ومعادلة أو مشابهة للمعلمين، حتى فقدت مدارس البنات بعض ميزاتها!. هذا ليس أرستقراطية أو طبقية، لكن الفجوة بين مدارس الذكور والإناث كانت أكثر اتساعا مما هي الآن ! فقد غابت أو تقلص كثيرا نموذج المعلمة الأنيقة كما المعلم الأنيق! وليس بعيدا ما طالب به وزير تربية سابق حول أناقة المدرسة وقاداتها.
قد يقال – وهذا قيل وما زال : إن دخل المعلم لا يؤهله لمثل هذا! ولكن يسهل الرد على هذا الفكر، فالأناقة ثقافة مجانية لا كلفة لها. وبالمناسبة يا د.أسعد، فإن هناك تبادلا قويا بين الأناقة و عدم الأناقة وبين الفكر والثقافة.
فالثقافة أناقة والأناقة ثقافة!! والسؤال هو :هل الأناقة وضعف الاهتمام نتيجة للاحباط، أم هي والإحباط من عوامل عدم الرضا؟. كان معلمو الخمسينيات ومعلماتها نماذج للرقي والأناقة، بل الأكثر أناقة في المجتمع، ولم أسمع أن ذلك كان بسبب دخلهم المرتفع!! هذه قضية تستحق الدراسة، ولا يجوز الحكم القاطع السريع تفسيرا لها. كان المعلمون مثقفين جدا – ذكورا وإناثا- فما العلاقة بين الثقافة والأناقة؟
هذه أفكار معلم عاش الفترتين، كان مع المعلم دائما، لأنه معلم دائم ولكن اختلف في أنه معلم ومتعلم! كما أن هذه ليست انتهازية بسبب ضعف المعلمين حاليا بسبب تشتتهم بين التعليم عن بعد أو عن قرب، ولا بسبب أي عوامل أخرى. ففي الحديث عن حقوق المعلمين أنا أول من يطالب بها، ولذلك يعيش المعلمون مصادر عدم رضا عديدة، ومصادر رضا محدودة جدا. ولكن الحل هو تطوير التعليم إلى مهنة وحسن اختيار منتسبيها، ووضع ثقافة حديثة للتعليم وأخلاقيات جديدة للمعلم. أرجو د. أسعد أن أكون قد أجبت!!
*خبير تربوي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى