نثار الدم / منصور ضيف الله

نثار الدم
سوار الدم ، عنوانة لإحدى مقالات الزعبي ، العنوان لافت ، يخاطب الوجدان العربي في اوضح تجلياته ، واعمق مكنوناته ، السوار الجميل ، المعطر بالانوثة ، المكحول بالرقة ، المنقوش بسر الكلمة ، الآخذ بالمعصم لتقر بها عين الأغن في ليالي الحصاد ، ومواسم القطاف ، وبيادر الشعراء . والأغن مخدورة في عرشها ، رافلة بسترها ، قانعة بأغلالها ، في زفرتها صرخة الولادة ، وفي شهقتها سكرة الموت .

والدم يظل دما ، فجيعة العربي ، وغوايته المتوارثة ، كأن حمرته القانية سحر هاروت ، ونثاره طشاش الأرض ، وغطاش الليل ، سره مستحيلات العرب ؛ يستسقون فلا يرتوون ، ويطلبون فلا يستكفون ، تظل هامتهم تستصرخ : اسقوني ، اسقوني .

نثار الدم وسواره ، يظلان جزءا من ذاكرة العربي وحاضره ، ولأنه كذلك فثمة صورتان ما زالتا تعصفان بالذاكرة ، و تدميان القلب . كانت بدوية سمراء ، لم تنل من العلم إلا أقله . لعلها رسمت صورة فتى أحلامها عبر سنين ، في كل سنة تضيف ملمحا جميلا ، تزين به لوحة العمر ، وتنتصر بها على قباحة الواقع وكلاحته .

يتقدم لها عريس طارىء ، وترفض بشدة ، فليس فيه إلا ما يشدها إلى الخلف ، إلى سنوات البؤس والجفاف ، هكذا تخيلت ، وأمام إصرار الأهل تضمر أمرا ، صبيحة ذاك اليوم تنهي حياتها برصاصة يتيمة ، يسيل خيط الدم قانيا من طراوة اللحم ، وطهارة الجسد إلى منقع العادة والعرف الاجتماعي . مضت كحلم صيف ، عبرت سريعا ، لم تنل فرصة حقيقية ، وظل نثار دمها يصبغ هاتيك الصباح بوشاح حزين باهت .

ولأن الدم دم ، فقد بقيت صورتها تتشبك مع صورة أخرى ، ابن عمومتي وملجئي في الطفولة ، نشأ يتيما ، ونما صلبا . فجأة ارتد حاله ، وانكفأت إرادته ، قضى أواخر أيامه صامتا حزينا ، لم يبح بسره ، وما شكا أمره ، فقط اتخذ قراره وحيدا ، ومضى برصاصة في مقتل لينبثق خيط الدم دافئا دافقا ، يرتعش بإيقاع بائس ، يمتد طويلا موحشا . ويلتقي الايقاعان ، يتحدان ، ويبدأ عرس الدم .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سبحان الله!!!
    للدم فلسفة لا يترجمها الا من امتلك زمام الكلام
    انه احساس الشاعر بمكنونات الأجزاء, عقلية فذة وثقافة واسعة واستيعاب للرمز والايحاء.
    وانا اقرأ نثار الدم وجدتني موزعة بين امرين:
    الغبطة !!اغبطك استاذ منصور على الاتقان في التعبير
    وعمق الفكرة ومطابقتها للواقع …وحسن الانتقال من فكرة لاخرى انتقال النحلة في بستان يانع.
    ووجدتني من ناحية اخرى ماخوذة,,اكاد اشتم رعاف الدم المطبق في الربيع العربي ويا لسخرية الاسم!!!!
    اكاد ارى طيف قابيل يعربد في الطرقات ,يزمجر يحكي حكاية الحقد الاخوي التي لا تنتهي
    اكاد اسمع صهبل الخيول وصرخات القتلى في حرب البسوس …
    وعند صورة عرس الدم ,ثمة ما يستوقفني:التقاء الدماء في ثرى الارض صورة من عشق الارض….تضم الارض ابنائها الهاربين من ظلم الاشقاء باشتهاء
    مكان كل شهيد قضى اريق دم قصة عشق اما للارض واما لمعشوقة نقية مات سرها …. هناك حيث اختلط الدم بالدم قصة عشق, ولقاء بلا انتهاء.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى