[review]
قاتلَها الله تلكَ ( اللفحة)!.
كنتُ أنتظر أن تحميني مِن برودةِ الهواء – وقَد فَعَلَت- ، لكنّها وللمفارقة، عرّضتني لعواصف ذاكرة (شميّة) لا ترحَم!.
اخترتها من بينِ مجموعةٍ كبيرة أحتفظُ بها في درج خزانتي، لأنها تلائم لون ثيابي، أحكمتُ لفها حول رقبتي ثم رفعتُها قليلاً لتغطي أنفي بينما أمشي في ذاك الجو البارد، فباغتتني– تلكَ المستبدّة – بعبقِ خاص ينتشر منها إلى جميع مسامي، ليتحول ذاك العبق الخاص والنادر إلى كيانٍ مكتمل يعود لعزيز واظبَ على ارتدائها ذاتَ حياة مَضَت، ..وَ مَضَى، لكنها لم تخلع وجوده! .
كانت التجربة مُدهِشة، فما فعلتهُ الرائحة كان أكثر حرفية ممّا قد ترسمهُ الصورة أو يُمَوسِقهُ الصَوت، إذ أعادَت (غائباً ) إلى ( الحضور) بدفقةِ عَبقٍ واحدة!.
عُدتُ ذاك المساء مبللة بالرغبةِ الجارفة لقراءة روايةٍ استثنائية تحتفلُ بالحاسةِ الشميّة احتفالاً يليقُ بها.
***
تُعد رواية العطر Das Parfum )1985)، أشهر أعمال باتريك زوسكيند, وقد ترجمت إلى حوالي 46 لغة, وبيع منها ما يقرب من 15 مليون نسخة حول العالم.
ومؤخراً تم تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي أنتجته هوليوود ولكنه فشل أمام الرواية، ولم يرق لمستواها كما أكدَ معظم النقاد قائلين: (لا يمكن للسينما تسريب الرائحة).
الروائح هوية البشر الأكثر خصوصية، وزوسكيند اختار بطلاً نابغة بالشم، كما لو أن البطل (غرنوي) يحمل مختبراً كيميائياً داخل أنفه. (غرنوي) ابن بائعة سمك على ضفة نهر السين في باريس، تلده أمه تحت طاولة تنظيف السمك، حيث فاجأتها تقلصات المخاض، وهنا قبعت تحت الطاولة ووضعت مولودها مستخدمة سكين السمك في قطع حبل السرة, فنتعرف على (غرنوي) جنيناً قابعاً تحت سرب من الذباب وبين أخشاب ورؤوس السمك المقطوعة, ينتقل من مرضعة إلى أخرى ومن ميتم إلى آخر بعد أن تقاد أمه إلى المقصلة التي اكتشف أمرها بأنها سبق وقتلت أربعة من مواليدها.
يكبر غرنوي ويمتلك كل ما حوله -البيئة والناس- شميَّاً وبشكل تام, كان قادراً على التعرف على رائحة أي مكان أو إنسان أو حجر أو شجرة أو عشبة أو سياج أو حتى أصغر وأضأل زوايا المكان. كان بمقدوره تخزين فرادة هذه أو تلك الرائحة في ذاكرته, فلقد جمع لنفسه عشرات آلاف, بل مئات آلاف الروائح ذات الخصوصية, وكانت هذه واضحة وجاهزة في ذاكرته بحيث لم يحتج لبذل الجهدِ من أجل تذكرها, بل كان قادراً على شمها حال استيقاظها في ذاكرته, والأعمق من هذا، هو امتلاكه القدرة على مزجها في خياله حسب رغبته, ما أدى إلى ابتكاره أنواعاً من الروائح غير موجودة في العالم الحقيقي.
كان يفتح منخريه ويغمض عينيه يتربص بالروائح حتى يمتلىء بها ..quot; غرنوي quot; بشخصيته الغرائبية لم تكن روحه بحاجة إلى شيء، كان غنياً عن الشعور بالأمن والدفء والحنان والحب..، يكتفي بالحد الضئيل من الغذاء والملبس، (أما ما كان يشتهيه فهو عبق بشر بعينهم: أولئك القلة النادرون الذين يلهمون الحب, هؤلاء كانوا ضحاياه)...،
ضرب جديد من الحب, وشكل غريب, مثير, ومرعب من التعبير عن هذا الحب, يتبدى بأكثر وجوه هذه العاطفة حدة, حين تبلغ حد التملك الذي لا يتم للعاشق إلا بممارسة استبداده على نحو عنيف. وهذا ما دفعه لقتل الفتيات الجميلات ذوات الشعر الأسود، فقد كان يسرق ثيابهن، ويقص شعرهن ولا يمسسهن، يمتص شذاهن العبق ورائحتهن ثم يغلق مزاليجه الداخلية بإحكام.
العطر ، رواية غزيرة المعلومات في أجزائها الأربعة ، تتواتر الأحداث فيها متمركزة حول الشخصية الرئيسية quot; غرنوي quot; في منظومة حكائية سردية منتظمة تتصاعد وتيرتها مع تطور الشخصية، بتطور المواقف لتصل إلى مستويات معقدة من الرؤى. ذات أبعاد انسانية مختلفة باختلاف عوالم الرواية، وقد تفرّد خلالها باتريك زوسكيند بين أدباء العالم في معالجته لموضوع الروائح، وعلى هذا النحو الأدبي الفريد من نوعه، وهي تحتاج قراءة ذهنية حسيّة بصرية تلتقطُ جميع هذه المؤثرات لتمنحنا نحنُ القراء ما يشبه حاسة جديدة تختلفُ كثيراً عن حاسة الشَم العادية، أو ترتقي بها على الأقل إلى مستويات لم نصلها من قبل .
***
عندما أنهيتُ الرواية، ..كنتُ بوضعٍ ذهني سمحَ لي بطرح التساؤلات، ثم التحليل وصولاً للإبتكار الشميّ!.
ولأننا نبدأ من ذواتنا، فقد قمتُ بتحليل رائحتي، كانت مزيجاً من الغضبِ اللاذع والحنين الجارف وبعضِ الحنّاء.. ولم أتوقف، كنتُ أستحضر الشخوص من ذاكرتي وأتسلى بتحليل روائحهم، بعضهم كان حيادياً كالزجاج، وبعضهم دافئ الرائحة وأمومياً كالحليب، وبعضهم كانت رائحته تشي بصدأ الحديد…
في مرحلةٍ لاحقة، بدأتُ بالمزج والإبتكار لخلق روائح للصفات والمصطلحات المتداولة، رائحة الضحك كرائحة الشيكولاتة، البراءة ياسمين، الكذب علكة، الصدق نعناع، الخوف دخّان، العشق قهوة، الشوق فلفل، الألفة ميرمية، الصداقة كافيار، الصدق كافيار أيضاً، الديموقراطية ماء، الديكتاتورية برائحة البصل، الفساد عفونة، الثورة كانت كالكبريت، والحرب جيفة.
.. وكان من الممكن أن لا أتوقف، لولا أنني عجزتُ- أخيراً – عن ابتكار رائحةٍ خاصّة بالحريّة ; إذ اصطدمتُ بواقع أنني لا أمتلكُ عبقرية (غرنوي) الشميّة التي تؤهلني لتخيّلِ روائحٍ لم أتعرف عليها من قبل!. أقصدُ، لم نتعرّف عليها من قبل!.
فتوقفت.
***
عَن إطلالة ( الأدب العربي).
المشاركة