محاصيل البطالة النقدية / خيري منصور

محاصيل البطالة النقدية

إذا صحّ ما يقوله ستانلي هايمن عن وظيفة النقد باعتباره الجسر أو القنطرة التي تردم الهوة الفاصلة بين المبدع والمتلقي، فإن مثل هذا النقد في أيامنا من الندرة والاستثنائية بحيث يكرس القاعدة، وهي باختصار التحليق النظري على ارتفاعات تحجب النصوص، ويكون النقد مجرد أفكار وانطباعات جمالية سائدة، وفي هذه الحالة يتغذى النقد من النص إلى أن يفقره، ولا يضيف إليه من خلال الاستقراء ما يجعله قابلا للتعدد والتأويلات.
وما كان للأدب والشعر بالتحديد أن يتطور في الرؤى والأداء لولا ما جناه من كشوفات النقد المغامر، الذي يصبح أحيانا إبداعا آخر موازيا، ولأن النقد إفراز حضاري بالغ التعقيد من حيث أبعاده المعرفية، فهو ليس ميسورا في كل أوان، لهذا ينزلق نحو الانطباعية والأفقية في مراحل الانحطاط التي تسود فيها الامتثالية، كنمط تفكير وسلوك، وتصبح القَطْعَنَة وعيدا بعقاب الخارجين عن مدارها المغلق.
وما من نقد فاعل إن لم يكن قد أضاف النزاهة إلى الكفاءة، لهذا غالبا ما يضرب المثل بالناقد ماثيسين الماركسي الذي قرأ قصائد ت. س. أليوت، متحررا من الأدلجة والبروكوستية التي تعذب النصوص، وكذلك الشعراء كي يعترفوا بما لم يقترفوا، والسبب في تحويل نقد ماثيسين إلى أمثولة في النزاهة، هو أن الشاعر الذي نقده وأنصفه كاثوليكي وملكي وكلاسيكي كما يعترف، وعلى نحو مباشر، حيث قال أنا كاثوليكي في الدين وملكي في السياسة وكلاسيكي في الأدب.
والمشهد المضاد لما قدمه ماثيسين عرفته ثقافتنا والنقد السائد فيها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حين كانت الأيديولوجيا والانتماءات السياسية هي المعيار الذي يحتكم إليه النقد، ولو شئنا استذكار أمثلة، فإن مجلة «شعر» التي كان يرأس تحريرها يوسف الخال، وكذلك مجلة «حوار» حكم عليهما بالإعدام من قضاة يزعمون التقدمية، رغم ما قدمته المجلتان من تحديث الحساسية الشعرية والارتقاء بالذائقة. ومقابل هذا الإعدام الرمزي سبّح نقاد آخرون بحمد شعراء ومنابر لمجرد أنها مصنّفة في خانة اليسار والواقعية، ما دفع شاعرا عربيا إلى القول إن لكل حزب نُقّاده، كما أن لكل قبيلة شعراءها.
وكما يحدث عادة فإن الترجمة المبكرة نسبيا للبنيوية، خصوصا الشكلاني منها أتاح لأشباه النقاد من الهواة تجريب مفاتيحهم في نصوص بقيت مقفلة بإحكام لأن البنيوية الشكلانية تخلت عن التقييم، واقتصرت على تفكيك النص وإحالة عناصره إلى مرجعيات، وهكذا أصبح الشعر كله غابة من نخيل متجانس، أو صفصاف، رغم أنه ليس كذلك ما دام منه الشعر الجدير بهذه الصفة والنظم المصنوع.
وما بدأته البنيوية الشكلانية أكمله الآن الإنترنت، حيث يتبادل الهواة الإطراء، ويتبادلون الحك، أما النقد المحترف فهو ينعم كسائر إفرازات العقل ببطالة لا تلوح لها نهاية في ستينيات القرن الماضي، وهو العقد التجريبي والحيوي في النصف الثاني من القرن العشرين كان بعض النقد العربي جسورا ولم تكن مقايضات السرخسيات والفطريات قد طغت على المستنقع الثقافي، ومارس النقد في تلك الفترة شعراء مثقفون، ممن خاضوا معركة التحديث في مناخات ملبدة بالترهيب والتخوين، وقرأنا على سبيل المثال ما كتبه كاظم جواد عن البياتي وهو في ذروة شهرته، حين قال إن البياتي لولا الواوات التي يفرط في استخدامها كي تستقيم له الأوزان لما كتب شعرا. ولم يتردد الشاعر الراحل أنسي الحاج في تقديم قراءات نقدية معمقة لصلاح عبد الصبور والبياتي أيضا، خصوصا في مقالة واقعية الشعر والانفعال. لقد تعايش النقد مع الإبداع في تلك المرحلة، فكانت مجلة «الآداب» تنشر نصوصا ثم تكلف نقادا لنقدها في عدد لاحق، فأين هو النقد الآن من كل ما ينشر ومن المنوط به فرز الشحم من الورم والغث من السمين والقمح من الزؤان؟
إن استثنائية ذلك العقد لم تكن عربية فقط، بل هي في نطاق عالمي، فالشعراء في الغرب كانوا نقادا بامتياز، تماما كما كان شعراء الرومانسية أبرز نقاد عصرهم كالثالوث الإنكليزي شيلي وكولردج وكيتس. الآن أكتب ما تشاء فأنت معصوم، وما من نقد يقترب من تخومك، ومصدر هذه الحصانة ليس فائض الموهبة، بل فائض الإهمال واللامبالاة، فاللعبة الآن بلا شبكة، واللاعبون يستعرضون مهاراتهم أمام المرايا، ولا يدركون أن ما يسجلونه من أهداف هو في مرماهم. والانحسار الذي أصاب نقد الشعر لم يسلم منه النقد بكل تجلياته، بدءا من النقد الذاتي سياسيا واجتماعيا حتى نقد الرواية والقصة والمسرح وسائر الفنون.
الأفلام السينمائية التي تتناسل مُثقلة بالأخطاء والعيوب ذاتها نادرا ما يتعرض لها النقد كي تصحو من سباتها التجاري واسترضاء الغرائز، والأرجح أن مصطلح النقد في ثقافتنا يشكو من سمعة سيئة، ويفهم على أنه انتقاص أو نيل أو نميمة، وقد تختصر عبارة شعبية متداولة الأمر، وهي أحرص على أن لا ينتقدك الآخرون. أما تعلق النقد بالثقافة والشعر خاصة، فلا بأس أن نعود قليلا إلى أحد جذوره، حين طلب الشاعر امرؤ القيس من زوجته أم جندب أن تقارن بين قصيدته وقصيدة علقمة الفحل، وحين انتهت أم جندب إلى تفضيل قصيدة الفحل دفعت الثمن وقال لها زوجها: أنت طالق! والطلاق لا يمارسه الأزواج فقط، بل هناك أحزاب وقبائل وتيارات ودول تلجأ إليه عقابا على أي موقف لا يروق لها ويتملق نرجسيتها.

٭ كاتب أردني

Share on Facebook

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى