دهاء امرأة

[review]

طأطأ رأسه وقال : شهادة الشهود لم تكن كافية لإثبات الدعوى ، فقد أفادوا أنهم لم يشاهدوا الزوج وهو يضربها أو يشتمها، إنما سمعوا ذلك من والدها عندما كانوا يحاولون إصلاح ذات البين ، والقاضي كالذي ينظر من ثقب باب لا يرى من الحقيقة إلا ما يسمح له ذلك الثقب أن يراه .

ابتلعت أذناها كلمات المحامي فأسقطتها في غيابة جب عميق ، الدنيا كومة فحم سوداء، ضاقت بها الأرض بما رحبت ، شعرت أن العمر ينسحب من تحت قدميها عبثا، دمعة هاربة ارتكبت جريمة بحق وجنتيها لتزيد وجهها شحوبا يثير الشفقة ،وقلبها ما زال معلق بكلمة لم تسمعها تلوح ببريق أمل ولو بعد حين ، فلم تعد تحتمل فكرة وجودها زوجة مع وقف التنفيذ.

أروقة المحكمة تعج بالصمت النسائي الرهيب، أجساد هزيلة حشرت نفسها في ملاءات سوداء ليست بعضها للتقوى، بعض الرجال قد أشعلوا سجائرهم الرخيصة والبعض الآخر قد أطفاءها في أص نبتة يبست منذ زمن بعيد ، في محاولة لتخفيف وطأة الانتظار ، ورجل قميء قد صعّر خده للناس ، يحمل ملفات ملونة ، يدخل ويخرج إلى غرفة القاضي ، والعيون المتلهفة للرحيل تلاحقه لعلها تجد مكانا لها بين هذه الملفات.

مقالات ذات صلة

يطفو الماضي فوق سطح الذاكرة، لتقابل سنيين عمرها مع زوج لا يطرب إلا لسماع أنّات قلبها الكسير، خمس سنوات تجرّعت بها كأس العذاب بملاعق الألم، فكلماته المسمومة كانت أشد ألما من لسعات سياطه التي كانت تنهال على جسدها الضئيل المباح كأنها لسعات عقارب .

كيف لها أن تستعيد جزء من عمرها المسروق ، بعد أن زوجها والدها من رجل لمجرد أنه أبن عمها ، فقطف ثمار أنوثتها وتركها خادمة تحت قدميه يستبيحها إلى حد الكرامة والصعر .

أعادها صوت جهور إلى أروقة المحكمة وهو ينادي على أحدهم كان صوت الرجل القميء، فتعلقت العيون على باب القاضي الذي يعلم أنه الرابح الوحيد، أما الحضور فيتراوحون ما بين خاسر أو أكثر خسارة.

في تلك الأثناء اكتشفت أن زوجها وصل إلى صالة الانتظار في المحكمة، كان يرتدي ثوب الورع وكوفية الشهامة وعقال العزة ، وأطلق لحيته على حلها وراح يجحضها بعينية ويلوك كلماته المسمومة ثم يبتلعها بغيض شديد، شعرت بقشعريرة وخوف شديد دب في جسدها،لم تستطع أن تنظر في عينيه فاكتفت باختلاس النظر ومحاولة الهرب من تلك النظرات.

عقد حاجبيه كما عقد يديه خلف ظهره وراح يجوب المكان وهو يفكر ماذا سيقول عنه الناس، كيف سيخرج من هذا المأزق ،أشعل سيجارة رخيصة والقى بعلبة سجائره في أص النبتة ،وراح ينفث دخانها بصبر نافذ ثم ينظر إلى ساعة جدارية لم يعد يهمها الوقت ، كانت معلقة فوق باب غرفة القاضي ، ثم ينفث الدخان مرة أخرى .

كانت تعلم أن هذه السيجارة هي آخر حصون الصبر لديه ، فهي السيجارة الأخيرة، استجمعت قواها ، وأرادت أن تستعيد ثقتها بنفسها وتخرج عن طورها ، فأيقظت المرأة ذات الكيد العظيم التي تسكنها. فأصبحت كأنها ثعلب ماكر ينظر إلى أرنب حقير ، يدور حوله ، يقترب ثم يبتعد ، نظراتها أصبحت أكثر جرأة وتهكما ، ضحكة صفراء أرسلتها إلى وجه جعلتها أذكى من أن تظهر ضعيفة مهزومة ، وصلت رسالتها بسرعة كبيرة فاستفزت في داخله ذكر غلبته زوجة خرجت عن طوعة ، فازداد غضبه غضبا .
دس يده في جيبه للبحث عن سيجارة لم يجدها ، دار بنظراته المكان لعله يجد من ينقذه بسيجارة مهما كان نوعها ، اقتربت منه أكثر ، مشى بضع خطوات باتجاه الباب الخارجي ، والسيجارة تنتصب بين عينية ،لحقته بدهاء وقررت أن تمتص الضربة الأولى ، استدار مرة أخرى فوجد نفسه أمامها وجها لوجه ، تقيأت في وجهه كلمات يعرفها جيدا لم يسمعها غيره، لم يتمالك نفسه فأمسك بعقاله وانهال عليها ضربا وهو يشتمها ويسب أهلها ويسب ذلك اليوم الذي عرفها فيه، صاحت، وعلا صوتها وحدثت جلبة كبيرة ، ففرت من بين يديه إلى الغرفة واختبأت خلف القاضي وهو ما زال يلاحقها حتى نال القاضي بعضا من ضرباته . صاح القاضي بالحرس، اجتمع حوله عدد من الحضور وسحبوه إلى الخارج.

انفرجت أساريرها، ابتسمت وابتسم القاضي، ضحكت وضحك القاضي وضحك الحضور والرجل القميء مازال يحمل الملفات الملونة.

محمود الشمايله

كاتب وقاص اردني

mhmoud23@yahoo.com.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى