تحت الضوء

#تحت_الضوء

د. #هاشم_غرايبه

ربما صدم كثيرون من موقف ألمانيا المتمثل بالتأييد السياسي والدعم العسكري الكبيرين للكيان اللقيط في عدوانه الوحشي الأخير، فقد بزت جميع الدول الأوروبية في ذلك، لدرجة أنها اعتبرت في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من بين الدول الاستعمارية الداعمة للعدوان.
سبب الاندهاش من هذا الإسراف الألماني في تأييد للمعتدي، بالرغم من ممارساته الوحشية واستهتاره بالقيم الإنسانية والمواثيق الدولية، والتي أجمعت الشعوب العالمية والمنظمات الدولية على إدانتها، السبب هو الاعتقاد الخاطئ ان ألمانيا أقل امبريالية وأطماعا استعمارية من باقي الأوروبيين.
لكن الحقيقة أنه لا اختلاف بين الأوروبيين على تعدد انتماءاتهم القومية، فمنذ فجر التاريخ لم تتوقف حروبهم العدوانية طمعا بالإستحواذ على ما لدى الآخرين، ما أوقف حروب الألمان هو هزيمتهم أمام الأمم الأوروبية الأخرى في الحرب العالمية الثانية، لكنهم قبلها لم تكن دمويتهم ولا وحشيتهم أقل منهم.
سألقي الضوء تاليا على واحدة من تلك الممارسات الشبيهة بممارسات الكيان اللقيط، وجرت أحداثها في أفريقيا التي كان ميدانا للتنافس بين الأمم الأوروبية لاستعباد سكانها ونهب خيراتها، وخلال ذلك قاموا جميعهم بممارسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية.
في عام 1884 تم احتلال ناميبيا التي تقع في أقصى جنوب غرب أفريقيا من قبل ألمانيا بموافقة من بريطانيا وحكومة جنوب أفريقيا المجاورة، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، وخلال خمسة عشر عاما، وصل لناميبيا ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني بدؤوا من فورهم بفرض حكمهم بالحديد والنار على حوالي 250 ألفا من السكان الأصليين فيه.
قام المستوطنون الألمان فورا بحملة طرد جماعي للسكان الأصليين من أراضيهم واستولوا عليها بالقوة، وتم تهجيرهم إلى محميات خارج حدود أراضيهم التي كانون يعيشون فيها.
في عام 1904، شهدت ناميبيا اندلاع ثورة قادتها قبيلة “الهيريرو” ضد المستعمر الألماني، وتمكنوا من قتل قرابة 120 مستوطنا وجنديا ألمانيا، ومثلما احدثت عملية طوفان الأقصى من هلع في أوساط المستوطنين الأوروبيين في الكيان اللقيط، فقام بقمع شرس لأهالي المقاومين وبيوتهم، كذلك فعل الألمان، فأرسلوا الجنرال “لوثار فون تروثا” حاكما عسكريا للمستعمرة، وبرفقته تعزيزات عسكرية كبيرة.
وعند وصوله، تجمّع ما يقرب من 50 ألف رجل وامرأة وطفل من قبيلة الهيريرو برفقة قطعانهم تحت قيادة زعيمهم “صاموئيل مهاريرو”، وفي نيتهم التفاوض مع الجنرال لوقف هجماتهم مقابل ايجاد حل سلمي.
غير أنه رفض قبل القضاء على المقاومين قضاء مبرما، وبدلا من ذلك أنذرهم بوجوب مغادرتهم أرضه أو قتلهم جميعا، وفعلا بدأ جنوده بإبادة الجميع، بلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال (تماما كما يحدث الآن في القطاع) وقدر المؤرخون الأوروبيون عدد الضحايا بـ 65 ألفا من قبيلة “الهيريرو”، وعشرة آلاف من قبيلة “الناما”.
بعد ذلك تم القبض على من بقي حيا، وبعد أن جمعوهم في معسكرات التجميع، حشروهم في شاحنات، وهجروهم الى إقليم “بتسوانا” المجاور، وأثناء ذلك مات عشرات الآلاف بسبب الجوع والعطش، وبلغت نسبة الوفيت ذروتها بين من نقلوا الى جزيرة “القرش” التي استأجرتها ألمانيا من المستعمر البريطاني، بسبب أشغال السخرة الشاقة وسوء الأحوال الجوية والمعيشية.
تواطأ المستعمران على إخفاء تلك الحقائق، وما انكشفت إلا بعد نشوب الخلاف بينهما في الحرب العالمية الأولى.
لم تقتصر فظاعات المستعمر الأوروبي على القتل والتعذيب، بل شملت تجارب بحثية طبية على المعتقلين في جزيرة القرش، وتزويد علماء في برلين منهم الطبيب الألماني “بوفينغر”، برؤوس بشرية كاملة لإجراء تجارب تهدف لتأكيد تفوق العرق الأبيض على العرق الأسود.
وبعد مطالبات عديدة من أحرار العالم، تبنت الأمم المتحدة عام 1985 تقرير “ويتاكر” الذي أقر بأن ما حدث في “ناميبيا” هو إبادة جماعية.
من هذا السرد التاريخي المقتضب، نستطيع أن نفهم سر تكون أسرع تحالف في التاريخ، فبعد عملية الطوفان، وخلال 24 ساعة، تراكض جميع القادة الأوروبيين لمنح الكيان اللقيط الضوء الاخضر لممارسة الإبادة الجماعية، وكانت كلمة السر التي كرروها: “مهما استوجب الأمر”، التي تعني تفويضا بممارسة كل الفضائع بلا التفات الى الأعراف والقوانين الدولية، وذلك خوفا من أن توقف هذه العملية مسيرة التطبيع الاستسلامي، الضامن الوحيد لبقاء الكيان اللقيط الذي أقامه المستوطنون الأوروبيون في قلب ديار الإسلام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى