بيدق رمادي

#بيدق_رمادي
م. #أنس_معابرة

لاحظتُ خلال قيادتي للسيارة؛ أنه نادراً ما تكون سيارتي الأولى في الوقوف على الإشارة الضوئية، ونادراً جداً ما تكون الأخيرة، عادة ما تكون سيارتي في الوسط بين السيارات، تماماً كحبة الفلافل في رغيف من الخبز، او كقطعة من الطماطم في صحن كبير من السلطة، وحين أراجع مؤسسة حكومية لقضاء معاملة، أو خلال زيارتي للمركز الصحي، دائماً ما أجد نفسي في الوسط بين المراجعين، لم أكن الأول ولو لمرة واحدة، وعادة ما يكون عديد من المراجعين بعدي.

دفعني هذا الى التفكر في أحوالي وجوانب حياتي المختلفة، وتذكرت مقال: “لعنة الوضع في الوسط” للراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، ووجدت أنه ليس من المصادفة أن تكون سيارتي في الوسط بين السيارات على الإشارة الضوئية، أو أن أكون متوسطاً لمراجعيّ المركز الصحي، بل غالباً ما أكون في #الوسط.

في الحالة الصحية؛ أنا في حالة من الوسط، فلا أمتلك صحة كاملة خالية من الأوجاع والأمراض، وفي المقابل؛ لا أتردد دائماً على المراكز الصحية والمستشفيات، أو أتناول الكثير من الأدوية يومياً بحمد الله. وكذلك جسدي في حالة من الوسط، فهو ليس بجسد شخص رياضيّ متمرس مداوم على الرياضة، ولا بجسد مترهل لشخص كسول، لا يتحرك من مكانه إلا نادراً، وتحيطه أكوام مترامية من الدهون.

ومن الناحية الإقتصادية؛ أنا أقفُ على الوسط تماماً، فلستُ بالغني الذي يمتلك الشركات والإستثمارات، ويجني الملايين في نهاية كل شهر، ولا بالفقير الذي لا يجد قوت يومه، ويبحث عنه بين أكوام القمامة، ولكنني أعيش في حالة من الكفاف والرضى والقناعة.

وفي أيام المدرسة، بل وحتى الجامعة، كنت في الوسط بين حشود الطلبة، مهما حاولتُ وإجتهدتُ فلم أحصل على المركز الأول إلا نادراً، وبطبيعة الحال؛ يقبع خلفي الكثير من الطلاب والطالبات.

حتى في السكن؛ فأنا أسكن في بيتٍ عاديّ متوسط متواضع، ليس لدي القدرة لأسكن بيتاً فخماً أو قصراً كبيراً، وبحمد الله وفضله، أنا بعيدٌ تمام البعد عن بيوت الصفيح والشعر والمخيمات التي تتكدس فيها المنازل الى جانب بعضها البعض، وفوق بعضها البعض، بما لا يسمح مجالاً لمرور الهواء.

وفي العبادة، أنا في حالة من الوسط أيضاً، فلستُ بالإمام الملتزم الذي يعلم تفاصيل الدين، ويقوم بالعبادة على أكمل وجه، ولستُ بالمنحرف المنحل الذي لا يعرف إتجاه القبلة، ولا يخشى ربه أو يعرف واجباته تجاهه، بل أنا في حالة وسطية بينهم، أعلم من الدين ما هو ضروري فقط، وأصلي في المسجد قليلاً، ونادراً ما أصوم من السنن.

وبعد أن تزوجت؛ وجدتُ أن حياتي الزوجية في حالة من الوسط، ليستْ حياة زوجية مثالية خالية من الأخطاء والمشاكل، أحياناً تُلقي أمواج الزواج العنبر على شواطئي، وأحياناً لا أجد منها إلا الرمال والماء المالح.

إذا ما بحثتَ أنت أيضاً، ستجد أنك في الوسط أيضاً في الكثير من مناحي الحياة، ولا تتوقف تلك الحالة على الحيثيات التي ذكرتها فقط، بل تمتد الى جوانب حياتنا المختلفة.

ربما قد يجدُ البعض أن الوسط هو الحالة المثالية التي من الأفضل التواجد بها، ألا تكون الأول، وتجد الكثير من الأشخاص قبلك، لتتعلم من أخطائهم وعثراتهم، وألا تكون الأخير، وتجد الكثير منهم أيضاً بعدك.

ولكن في رأيي الشخصي؛ الوسط هو الحالة الأصعب بين الحالات الثلاث، فأن تكون الأول في الدراسة معناه أن تدرس الطب أو الهندسة، وأن تكون الأخير، معناه أن تبحث عن حِرفة مناسبة لقدراتك، ولكن أن تكون في الوسط معناه أن تجد نفسك ضائعاً، تبحث عن أحلامك بين أكوام الأحلام المترامية من حولك لأشخاص لهم نفس حالتك الوسطية.

أن تكون في الوسط الاقتصادي، معناه أن تعيش من أجل يومك فقط، أنت قادر على تأمين إحتياجات أسرتك، ولكنك غير قادر على إمتلاك منزل، أو شراء سيارة، أو حتى الإحتفاظ ببعض الأموال البيضاء لأيام سوداء قد تأتي مستقبلاً.

أن تكون في الوسط، معناه أن تكون مثل بيدق رماديّ على لوح شطرنج، لا ينتمي الى البيادق السوداء المنتصرة، ولا يحق له أن يبتهج بالإنتصار معهم، ولا ينتمي الى البيادق البيضاء المهزومة، ولا يحق له أيضاً أن يحزن مثلهم، بل أنت منبوذ من الطرفين، ولا يرغب أحدهم بإنضمامك الى فريقهم.

تُذكرتي حالة الوسط دائماً بقول دانتي: “أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الأشخاص الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية”، فأنت كإنسان وسطيّ لا تنتمي لأحد الأطراف، وستكون على الحياد دائماً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى