بلغ السيل الزبى
كلما انتهينا من تجرع غصص رفع أسعار بعض المواد، تُفاجئنا الحكومة بحزمة جديدة لم تكن تخطر على بال بشر، فنلوك مرارتها من جديد، وقبل أن نتخلص من مذاق الضريع نجدها تسقينا الغسلين، فأتخمت البطون، وامتلأت الأمعاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع حين صار الناس يتخيرون ما هو أقل كلفة على جيوبهم لسد رمق أبنائهم، وأيا كانت شدة التدبير تزداد الحلقات ضيقا على أحوال المعوزين، وصاروا لا يملكون إلا الحوقلة والاحتساب إلى الله.
ليس من جهد على الحكومات في أي دولة أن تزيد الضرائب على المواطنين، لتضرب أجسادهم بمقامع من حديد، وتلسع جلودهم بسياط من لهيب، فزيادة الأسعار لا تحتاج إلا إلى قرارات ليست من الصعوبة بمكان اتخاذها، والقرارات لا تكون أكثر من أقوال سهل التلفظ بها، بيد أن الجهد المكلف يكون في الابتدار والابتداع الذي يتوجب على الحكومة اللجوء إليه بالأفعال التي ينتظرها العامة من الخاصة، ويرقبها المواطنون من رجالات الدولة، لتخفف الحكومة عن كواهل المواطنين، تلك الكواهل التي كلت ولم تعد تقوى على حمل أخف الأثقال بعدما أنهكت.
هنالك أصوات تئن، وحشجرات تتألم، وحسرات تتقطع، وتأوهات تتعالى، فتصم الحكومة آذانها كي لا تسمع صوت الأذى الذي يحيق بالناس، وتغمض أعينها كي لا ترى بؤس أحوالهم، وتصر على المزيد مما يزيد العبء على البؤساء القابضين على جمر الصبر، ومنهم من نفد صبره فأرسل برسالة روحه إلى أولي الأمر: إما جثة تلتهمها النيران، أو جسما معلقا في الهواء، أو جسدا يتهاوى من عل، وما ذاك إلا من ضيق قد ازداد ضيقا بوجه من ضحى بنفسه كي لا يبقى على قيد الحياة، وإن تم تبرير تلك الأحداث بأسباب أخرى قائمة من قبل الجهات الرسمية، فقد تكالبت الأسباب.
على الحكومة أن تعي أحوال المواطنين، وأن تعلم أن ذوي الدخول المحدودة والثابتة منذ سنين، لم يعد بمقدورهم مواكبة كل هذا الغلاء، وأن تدرك بأن الذرائع التي تساق لتسويغ ارتفاع الأسعار باتت ضعيفة أمام قلة الحيلة لمن لا يكاد يتدبر شؤون أسرته، فهنالك من الوسائل ما هو أجدى وأنفع للوطن والمواطن.