الصَّمْتِ

الصَّمْتِ

د. ثَرْوَتُ مُوسَى الرَّوَاشِدِهْ
لَغَهُ الْعُظَمَاءُ فَلَا يُفَضِّلُهَا أَوْ يُتْقِنُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ عَظِيمًاً ، حَيْثُمَا كَانَ تَكُونُ الْهَيْبَةُ فَيَمْنَحُكَ الْقُوهَ وَالثِّقَةَ وَيَجْعَلُكَ مُدْرِكٌ لِفُنُونِ الْحِكْمَةِ وَالْوَقَارِ ، فَلَهُ فَلْسَفَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْمُو بِكَ مِنْ عَشْوَائِيَّةِ الْكَلَامِ وَيَمْتَلِكُ
مَنْهَجًاً وَأُسْلُوبًاً يَحْمِلُ بَطَيَّاتَةً تَأْثِيرًاً عَمِيقًاً عَلَى السُّلُوكِ الْبَشَرِيِّ
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مُتَجَلِّيًاً فِي فَضَاءَاتِ الْإِبْدَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَبِعِلْمِ النَّفْسِ وَالْإِجْتِمَاعِ ، فَالصَّمْتُ ثِقَةٌ عِنْدَ الْفَوْزِ ، قُوَّةٌ عِنْدَ الْغَضَبِ ، ابْدَاعٌ عِنْدَ الْعَمَلِ ، خُلِقٌ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ ، أَدَبٌ عِنْدَ النَّصِيحَةِ ، تَرْفَعُ وَقْتَ السُّخْرِيَةِ ، مُنْجَاةً مِنْ الْإِثْمِ وَمَغَبَّاتِ جَرَائِرِ اللِّسَانِ وَآفَاتِهِ .

وَذَكَرَ الصَّمْتَ بِدِينِنَا الْحَنِيفِ بِقِصَّةِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ «عَلَيْهَا السَّلَامُ» قَبْلَ إِنْجَابِهَا نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى قَالَ تَعَالَى…. (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُوْلِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا )…. صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ.
وَقِصَّةُ صَمْتِ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا لِثَلَاثِ لَيَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَالَ آيَتُكَ أَلَاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاَثَةَ أَيَّامٍ إِلَّاَّ رَمْزًاً )..صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ
وَمِنْ اللَّافِتِ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا قِصَّةَ صَمْتٍ خَاصٌّ بِهَا لَا يَتَكَرَّرُ ،فَالْكَوْنُ يُمَيِّزُ بَصْمَةَ الصَّمْتِ وَيَجْذِبُ لِكُلٍّ مِنَّامَا يَقُولُ، مِمَّا يَجْعَلُ لِلصَّمْتِ قِيمَةً عَظِيمَةً فِي تَجَنُّبِ الْكَثِيرِ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ الَّتِي قَدْ نُقُودُهَا لَانْفُسِنَا بِحَصَادِ أَلْسِنَتِنَا .

وَجَاءَ عِلْمُ النَّفْسِ لِيَتَحَدَّثَ عَنْ الصَّمْتِ فَيَقُولُ الدُّكْتُورُ
…..(بُولْ هَايْدَرْ ) الصَّمْتُ يَجْعَلُكَ تَقْرَأُ افْكَارَكَ بِعِنَايَةٍ فَتَكُونُ قَادِرًاً عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الْمُشْكِلَاتِ الْعَاطِفِيَّةِ ، يُقَلِّلُ مِنْ أَلَمِكَ وَ شُعُورِكَ بِالْوَحْدِهِ …وَتَقُولُ دِرَاسَةٌ فِي مَجَلَّةِ …(Perspectives On Psychological…إِنَّ هُنَالِكَ عَلَاقَةً مُعَقَّدَةً بَيْنَ الذَّاكِرَةِ وَالصَّمْتِ، أَيْ أَنَّنَا إِذَا لَمْ نَتَحَدَّثْ عَنْ شَيْءٍ مَا فَإِنَّ الْأَمْرَ يَبْدَأُ فِي التَّلَاشِي.

الصَّمْتُ ذَلِكَ الْعِلْمُ الْأَصْعَبُ مِنْ الْكَلَامِ ، أَفْضَلُ جَوَابٍ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ فِيهِ اسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ وَ اللِّسَانِ ، مُحَاوَلَةٌ لِاسْتِنْطَاقِ مَضَامِينِ الْحُرُوفِ اللَّامَنْطُوقَةِ ، فَضَيْلُهُ لِمَنْ لَا تُعْرَفُ قُلُوبُهُمْ التَّوَاطُئَ ، مَلْجَأٌ لِمُسْتَنْزِفِي الْمَشَاعِرِ ، هُنَالِكَ كَلَامٌ لَا يَقُولُ شَيْئٌ ، وَصَمْتٌ يَقُولُ كُلُّ شَيْئٍ ….فَكَمَا قَالَ الْفَيْلَسُوفُ وَلِيمْ هِنْرِيتْ الصَّمْتَ فَنٌّ عَظِيمٌ مِنْ فُنُونِ الْكَلَامِ…..

وَإِنْ كَانَ الصَّمْتُ لَا يَعْنِي شَيْئًاً بِمُعْجَمِ الْأَغْلَبِيَّةِ إِلَّا انَّهُ ذَاكِرَتُنَا الْأُولَى ، طِرَازُنَا الْأَنِيقُ الَّذِي يُهَنْدِمُ أَلْسِنَتَنَا ، يُجَنِّبُنَا الْمُرَاوَغَةَ ، تِلْكَ الصَّحْوهَ الذِّهْنِيَّةَ لِتَحْلِيلِ تَصَوُّرَاتِنَا وَمَوَاقِفِنَا وَإِنْ كَانَ يَخْلُو مِنْ الْإِيحَاءَاتِ الْبَلِيغَةِ الْغَيْرِ مُعْلَنَةٍ وَالْغَيْرُ مُشَاعَةً ، حَالَةٌ وُجُودِيَّةٌ مُتَغَلْغِلَةٌ فِي دَوَاخِلِنَا ، يَجْعَلُنَا أَقَلَّ عُرْضَةً لِلْأَخْطَاءِ ، أَقَلَّ اسَاءَهُ لِلْأَشْخَاصِ ، مُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِنْفِعَالَاتِنَا ، نَتْقِنُ مِنْ خِلَالَةِ فُنُونِ التَّسْلِيمِ ، تِلْكَ الْفَلْسَفَةَ الَّتِي تَجْعَلُنَا نَهْرُبُ مِنْ الْخُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِيهْ الْمُتَعَشْعِشَةِ فِي رُؤُوسِنَا ، فَلِلصَّمْتِ سِرٌ عَظِيمٌ أَوَّلُهَا اسْتَعَادَهُ ذَاتُكَ وَفَهْمُهَا وَآخِرُهَا أَنْ تَلُوذَ بِنَفْسِكَ لِمَكَانٍ خَالٍ لَا تَسْمَعُ فِيهِ سِوَى صَوْتِ أَفْكَارِكَ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى