التغييرات في العالم الجديد وضرورة فهمها وإستيعاب أبعادها

#التغييرات في #العالم_الجديد وضرورة فهمها وإستيعاب أبعادها
بقلم : د. #لبيب_قمحاوي
التاريخ : 26/02/2025
lkamhawi@cessco.com.jo
إن محاولة فهم عالم المستقبل وإستيعاب متغيراته بإستعمال أدوات الماضي حصراً هو أمرٌ سوف يؤدي بالضرورة إلى فشل القدرة على فهم تلك المتغيرات والتعامل معها بشكل صحيح . إن استيعاب المتغيرات الدولية المرتبطة ارتباطاً حثيثاً بالسيطرة على مكامن القوة العسكرية والإقتصادية والمالية والتكنولوجية وأدواتها الجديدة أمراً ضرورياً لفهم ما يجري من تغييرات في عالمنا وإلى أين تتجه الأمور. وهذا الأمر يستدعى تَمَلُّكْ القدرة والرؤية على تقييم التطورات ضمن منظور أدوات المستقبل خصوصاً في حقل التكنولوجيا العالية والذكاء الإصطناعي (Hi Tech and AI) والتي سوف تشكل أساس ومنطلقات القوة الحقيقية للسيطرة على عالم المستقبل . وهذا الأمر من شأنه أن يعطي أهمية خاصة للموارد الطبيعية وإمتلاكها ، خصوصاً ما يتعلق منها بالتأثير المباشر على ما يلزم من تلك الموارد لتصنيع أدوات ووسائط التكنولوجيا العالية مثل Micro Chips.
ما زال العالم ينظر إلى قضايا التغيير الاستراتيجي التي تعصف الآن بالعالم من منظور تقليدي ضيق يتم بموجبه تقييم التغيير والأخطار المرافقة له بإصرار وبإستخفاف بإعتبارها قد تتناقض أو لا تنسجم مع مقاييس العالم القديم . وقد ساعد على ذلك أسلوب الرئيس الأمريكي ترمب والذي يبدوا في ظاهرة غير متوازن ويبعث على الاستخفاف بالنسبة للبعض والسخرية بالنسبة للبعض الآخر. وفي واقع الأمر ، فإن ترمب يعني ما يقول وتصريحاته ليست عشوائية بقدر ما هي عناوين لبرامج أو أفكار لا تعترف إلاّ بأولوية المصالح على أي ترتيبات أخرى قد تعكسها أولوية التحالفات التقليدية أو متطلبات القانون الدولي إلى آخر ذلك من قِيَمْ إنبثقت عن حقبة الحرب العالمية الثانية في العالم القديم ، تلك القيم التي ما زالت سائدة حتى الآن وإن بدرجات متفاوتة .
إن ما تسعى إليه إدارة الرئيس الأمريكي ترمب حالياً هو فرض التغيير الذي تريده على الساحة الدولية واقتناص أقصى ما يمكن من المكاسب قبل أن تتبلور المعارضة لسياساته على مستوى العالم وبما قد يحد من إمكانية تَفَرُّدّه بِفَرْض التغيير الذي يريده بحد أدنى من المعارضة. فالعالم الآن ما زال يعيش في صدمة ترتبط بسلوك الرئيس ترمب وتصريحاته ، والعالم ما زال مشتتاً بين مفاهيم وقِيَمْ العالم السائد ومفاهيم وقيم العالم الجديد القادم ، وما زالت ردود فعله بطيئة ومشوشة على التغيير القادم ، مما يجعل الفرصة ما زالت مفتوحة أمام الرئيس ترمب لفرض التغييرات التي يريدها أو في أضعف الظروف وضع الأسس لمثل تلك التغييرات .
لا يسعى الرئيس ترمب إلى تفجير الأوضاع سعياً لإنفاذ ما يريد لأن ذلك من شأنه أن يُفْسِد هدفه من إحداث التغيير ضمن أجواء عالم بعيد عن الحروب التقليدية . فإستعمال القوة العسكرية هو الأسلوب التقليدي لإحداث التغيير أو منعه في النظام القديم وهو السائد حالياً ، علماً أنه قد ثبت فشله في معظم الأحيان في احداث التغيير المنشود من قبل الدول صاحبة القوة العسكرية من جهة ، بالإضافة إلى كونه أحد أهم أدوات القوة في يد الدولة الوطنية من جهة أخرى ، مما يتعارض مع رؤية النظام الدولي الجديد الذي يسعى إلى إضعاف الدولة الوطنية وإلى إحداث التغيير بواسطة الضغوط الاقتصادية والتكنولوجية للكيانات السياسية والإقتصادية الكبرى دون الحاجة إلى اللجوء للقوة العسكرية . ومن هنا تجئ دعوة الرئيس ترمب خلال حملته الإنتخابية وبعد نجاحه في الإنتخاب لوقف الحروب ومساعيه من أجل ذلـك بإستثناء دعمه المفتوح لمسار إسرائيل العدواني .
إن التعامل مع الدولة الوطنية وسيادتها بإستخفاف والسماح للدول الأقوى بإقتطاع ما تريد من أراضي الدولة الوطنية وثرواتها الطبيعية بإعتبارها عقاراً ، وشعبها بإعتبارهم بشراً مقيمين يتم تهجيرهم منها كيفما كان يشكل امتداداً لعقلية العالم الجديد القادم الذي يعطي الدول صاحبة القوة بأشكالها المختلفة الحق في استعمال تلك القوة لفرض ارادتها من خلال الضغوط الاقتصادية والمالية والتكنولوجية دون مراعاة للإستقرار الدولي الذي توفره الهوية الوطنية والسياده الوطنية والإنتماء الوطني ضمن اطار الدولة الوطنية في المفهوم السائد حالياً .
إن موقف الرئيس ترمب من إقليم غزة وتهجير وطرد سكانه لا ينحصر مثلاً بشكل كامل بتأييد اسرائيل وأطماعها فقط كما يُهيء للكثيرين ، ولكنه يتعلق وبالإضافة إلى نظرة ترمب إلى دول العالم بشكل عام واحتقاره الكامل لمفهوم الدولة الوطنية كما إتضح بشكل واضح من موقفه من كندا وجرينلاند وبنما . الموضوع بالنسبة لترمب أقرب ما يكون إلى الرغبة في إمتلاك أجزاء من أوطان بإعتبارها عقاراً يمكن شراءه أو إمتلاكه الآخرين فقط لمجرد إحتوائه على ما يحتاج إليه من موارد طبيعية أومن موقع جغرافي استراتيجي أو أهمية استثمارية . ما نحن بصدده إذاً هو عالم مستباح للأقوى ، قيمته تكمن في ما يملكه تحت الأرض وليس فوقها حصراً مما سيؤدي حتماً إلى تجميع منابع القوة والثروة بأيدي قلة من الكيانات السياسية وتتحول الكرة الأرضية بذلك إلى ملعب مفتوح أمام تلك القوى بإعتبار الانتماء للبشر هو في الأساس كوني ، والحُكْم مرتبط بتوفر القدرة على ادارة الموارد الطبيعية واستغلالها بشكل كفوء ضمن مفهوم أمني عام يعطي مسؤولية حفظ الأمن الكوني لشركات عالمية متخصصة وليس لدول بعينها ، وإعتبار تلك الشركات هي الوريث للدولة الوطنية التقليدية .
إن التقلص المتزايد في أهمية الدولة الوطنية قد أصبح مساراً واضحاً تقوده الولايات المتحدة تحت إدارة ترمب كوسيلة لتقليص سيادة تلك الدول وسيطرتها على مواردها الطبيعية لصالح النهج الجديد القاضي بإعتبار تلك الموارد ملكاً مشروعاً لمن يستطيع إدارتها بكفاءة والإستفادة منها عوضاً عن تبديدها من خلال الإدارة السيئة للدول التي تملك السيادة الوطنية عليها .
من الواضح أن الأولوية في التغيير بالنسبة لإدارة ترمب هي في الإستيلاء على الموارد الطبيعية لتعويض النقص الخطير المتزايد في توفر تلك الموارد نتيجة لإستهلاكها المفرط من جهة ، ولأثرها الحاسم في القدرة على تطوير أجهزة التواصل والإتصال والرقائق الألكترونية التي تتحكم الآن وبشكل متزايد في كل شئ له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة . وهذا الأمر المتعلق بالموارد الطبيعية هو أساس موقف أمريكا من كندا وجرينلاند ومؤخراً أوكرانيا عندما طالبها ترمب بإعادة قيمة المساعدات والقروض التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا من خلال تسديدها على شكل مواد ثمينة من مواردها الطبيعية بالإضافة إلى النفط والغاز . والرسالة هنا واضحة وهي سعي الولايات المتحدة إلى السيطرة على الموارد الطبيعية في العالم بغض النظر عن أماكن توفرها وعن حقوق الدول التي تملك تلك الموارد وسيادتها الوطنية عليها ، وبالرغم عن تصنيفها كدول حليفة للولايات المتحدة ، حيث لم يعد لصفة الحليف الإعتبار الذي كانت تحظى به الدولة المعنية في النظام الدولي القديم .
التطورات الأخيرة المواكبة لبدء إدارة ترمب الحكم في أمريكا تعطي مؤشراً واضحاً على ازدياد ملموس في دور الشركات الكبرى في إدارة شؤون الدولة . فمثلاً الدور الذي يقوم به الآن Elon Musk في مراقبة أداء مؤسسات الدولة الفدرالية وكفاءتها بواسطة فريق من المختصين الذين ينتمي معظمهم لشركات Musk قد أدى عملياً إلى وضع المؤسسات الفدرالية ومستقبلها في قبضة القطاع الخاص الأمريكي ، وهذا يعني عملياً قلب موازين الأمور بشكل يؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة لصالح تقوية دور الشركات الكبرى في إدارة شؤون الدولة . وهذا الأمر على ما يبدو في ازدياد وإلى الحد الذي قد يحول الشركات الكبرى في المستقبل إلى بديل للدولة الوطنية ويتم تصنيف العالم وتقسيمه بما يتناسب وهذا التغيير .
في ظل استحالة استعمال أسلحة الدمار الشامل في التعامل مع الحروب والنزاعات الكبرى ، يُعتبر سلاح المقاطعة الإقتصادية والحصار المالي الذي تمارسه أمريكا هو السلاح الأقوى والأكثر فعالية في الترسانة الأمريكية خصوصاً وأن عملتها الوطنية ، الدولار ، هي العملة الأقوى دولياً وهي التي تتحكم بحركة التجارة الدولية والدورة الإقتصادية والإستقرار المالي للعديد من الدول . ويأتي استعمال هذا السلاح المالي والإقتصادي منسجماً مع أدوات التغيير المنشودة للعالم الجديد والتي تسعى إلى الإبتعاد بشكل ملحوظ عن استعمال الخيار العسكري والحروب . وتقديراً لأهمية وخطورة هذا السلاح وفعاليته ، قامت مجموعة من الدول بطرح عملتها الخاصة بها مثل عملة اليورو Euro بالنسبة للمجموعة الأوروبية كرديف للدولار الأمريكي في التجارة الدولية والمعاملات المالية الدولية ، وكذلك محاولة مجموعة دول Brix إصدار عملة بديلة للدولار في تعاملاتها المالية والإقتصادية الدولية كوسيلة للحد من سطوة وسيطرة الدولار الأمريكي على التعاملات المالية والتجارية الدولية .
يستدعي هذا التطور في النظام الدولي بالضرورة السيطرة على طرق المواصلات الدولية أو ضمان حياديتها دولياً خصوصاً المفاصل الهامة التي تتحكم في الملاحة البحرية الدولية مثل قناة بنما وقناة السويس ومضائق باب المندب وجبل طارق ، بإعتباره أمراً حيوياً في الصراع الدائر الآن للسيطرة على الموارد الطبيعية في العالم ، وجزأً هاماً من سياسة التحكم في المصالح الإقتصادية بين التكتلات الجديدة في العالم مثل مجموعة بريكس BRIX والصين والخطط المتعلقة بالسيطرة المستقبلية على الموارد الطبيعية في القطبين الشمالي والجنوبي عند توفر التكنولوجيا اللازمة لذلك .
الأفكار الوارده في هذا المقال ليست نبؤات بل هي تحليل جاد وإن كان مختصراً لمسار قد ابتدأ وسوف يتفاقم مع مرور الأيام آخذاً أشكالاً مختلفة في مجالات متعددة قد تتطور لتصبغ شكل وطبيعة العالم الجديد ، إلا إذا نجحت منظومة الدول الوطنية في تأخير حصول مثل هذا التطور أو منعه ووضع حداً لكل من يسعى إلى الإنفراد بالقوة والثروة وذلك من خلال التعامل مع الكرة الأرضية ومواردها بإحترام يراعي أهمية تلك الموارد ووحدة مصير الجنس البشري القاطن لهذا الكوكب .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى