سواليف
تحت عنوان “القدس في الضمير” ، نشرت صحيفة الأهرام المصرية مقالا للأمير الحسن بن طلال جاء فيه
في خضم الصراعات والحروب التي تدور رحاها في المنطقة والإقليم، تبقى فلسطين قضية العرب المركزيّـة الأهم، وتبقى القدس معها حاضرة في وجدان أبناء الأمّة، فهي وأهلها يستحقون منا كل دعم واحتضان. ونحن بدورنا على العهد باقون من أجل الحفاظ على عروبة القدس ومقدساتها وإرثها الحضاري.
إنّ مدينة القدس ومقدساتها هي أكثر مدينة في عصرنا الحاضر تحظى بحماية وضمانات دولية تمّ اختراقها من خلال الاعتداءات المتكررة والإجراءات التعسفية لسلطات الاحتلال الإسرائيلي. ولا بد من تبني استراتيجيات جديدة تجاه قضية القدس، وإيجاد آليات تنفيذية على الأرض تحافظ على الوضع الراهن وتحمي الفضاء الديني والمصلّين من أية انتهاكات واعتداءات.
لقد بدأت رعاية الهاشميين الشاملة للمسلمين والمسيحيين ومقدساتهم في القدس منذ وصول جدي المغفور له الشريف الحسين بن علي إلى القدس قادمًا من مكة المكرمة في سنة1915، حين استقبله المقدسيون استقبالاً تاريخيًّا، وكان على رأسهم أعيان من رجالات القدس ساروا بصحبته إلى المسجد الأقصى المبارك.
وعندما نتحدّث عن المسجد الأقصى المبارك (الحرم القدسي الشريف)، فإنّنا نقصد ونعني كامل المساحة البالغة 144 ألف متر مربع، المشتملة على المسجد الأقصى المسقوف، وقبة الصخرة المشرفة، والمصلّى المرواني، وكل الساحات والمنشآت الأثرية الدينية والتاريخية داخل هذه المساحة.
وفي هذه المدينة المقدسة، نجد روح التسامح متجذّرة عبر التاريخ، فقد سكن أبناء القدس العرب؛ مسلمين ومسيحيين، في مباني الوقف جنْبًا إلى جنْب. وساهمت الأوقاف الذُّرية والخيرية في القدس في خلق حالة حضارية من الوعي والإدراك لدى سكان وأهالي القدس العرب من أجل الحفاظ على هذا الإرث الثقافي والديني والاجتماعي المتجذر في التاريخ.
لقد خلقت الأوقاف الذرية في القدس حالة فريدة لا نجدها في أيّ مكان في الدنيا، فابن القدس الذي أنشأ الأوقاف الذرية والخيرية في سجلات المحكمة الشرعية في العهد العثماني، هو نفسه المقدسي اليوم الذي ورث عن أجداده حب المدينة المقدسة، وانتماءه إليها، وبقي صامدًا شامخًا في منزله الصغير في حارات القدس العتيقة.
وتحت مظلة منتدى الفكر العربي أسّسنا منذ حوالي عشرين عامًا مشروعًا حضاريًّا يحمل عنوان القدس في الضمير،عقدنا في إطاره سلسلة من الندوات العلمية والفكرية عن الأوقاف الإسلامية والمسيحية في القدس؛ ناهيك عن تراثها وتاريخها وحضارتها.
لا بدّ من تفعيل المسيرة الخيّرة للوقف الإسلامي بما يرسخ العمل المؤسسي المتكامل الذي يحقق الاستثمار الأمثل لمقدرات الأمة وثرواتها ويبعثُ الأمل والإلهام في نفوس شبابها. أتحدّث هنا عن الوقف الإنمائي الذي يأخذ صورة مشروعات حيوية تسهم في الجهود التنموية على أكثر من صعيد بما يحقق الصالح العام وينسجم مع مبادئ الحاكميّة الرشيدة.
ويمكن لهذا التوجه أن يسهم بفاعلية في دعم القدس وأهلها. فما آلتْ إليه الأوضاع في مدينة القدس يدفعني إلى تأكيد ضرورة تفعيل العمل العربي المشترك في هذا المجال، بما يسهم في تحويل الفكر إلى ممارسات والأماني إلى واقع.
إن الدور العربي والإسلامي المنسّق والفاعل أمر حيوى في مواجهة العديد من الكوارث والأزمات التي تلمّ بعالمنا. ثمة حاجة إلى تفعيل شبكة المؤسسات العربية والإسلامية القائمة واستثمار نتائج عملها في التصدي لمختلف التحديات.
وفي إطار الحديث عن معمار جديد للمشرق العربي وبلاد الشام، لا بد أن يكون من أولوياتنا وضع القدرة التحمليّة للسكان العرب في الإقليم فوق النزاعات والحروب، والاستثمار في رأس المال الإنساني.
إن تحقيق الوحدة العضوية بين الإنسان والطبيعة وأخلاقيات المسئولية الكونية يضع الإنسان العربي في صُلب معادلة الكرامة الإنسانية. وهي الغاية التي ننشدها جميعًا.