الأيديولوجيا والأخلاق / د. هاشم غرايبه

الأيديولوجيا والأخلاق
الأيديولوجيا هي النسق الكلي لـلأفكار و المعتقدات و الاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الفعل الواقعي للأفراد والجماعات وتوجيهه.
وجد المفكرون الرافضون للدين الحاجة الى هذا الجانب من حياة الناس، كبديل له بعد أن وجدوا أن السلطة والقانون لا يكفيان لضبط السلوك البشري وتوجيهه، فلا شيء يضاهي المعتقد في ذلك.
لما كان المرتكز الأساسي هو الإيمان بصحة المعتقد، فقد كانت تلك متوفرة في الدين، لأنه مبني على الإعتقاد بوجود الله كقوة مسيطرة عليمة بخفايا النوايا والأفعال، وفوق ذلك مبدأ الحساب عليها، لذلك فالإلتزام بما يتطلبه ذلك المعتقد يكون في أقوى صورة، لكن الأفكار البشرية البديلة كفكرة الشيوعية والرأسمالية والديمقراطية والكونفوشيوسية والبوذية…الخ، ليس لها ذلك الضابط الداخلي، بل تعتمد على القناعات الفردية التي غالبا ما تتغلب عليها المصلحية، فتتحول عادة الى مجرد شعارات يستثمرها المنتفعون من تطبيقها ويعرض عنها من لا تخدم مصلحته.
ربما كان ذلك أهم أسباب إخفاق الشيوعية عند التطبيق، فقد كانت المثالية الساذجة تحكم تفكير واضعيها، فلم يضعوا اعتباراً لأهمية الحافز والرادع، لذلك فشلت في فرضها عنوة على يد “ستالين” رغم تضحيته بخمسين مليونا، ثم سقطت نهائيا بيد “غورباتشوف” بالتجربة الإختيارية.
لذا من البديهي اعتبار أن توجيه الأنماط السلوكية (الأخلاق) وضبطها معياريا، ليس ممكنا لأي من تلك البشرية المنشأ، لأن الدين يبقى هو الأيديولوجيا الحقيقية فقط.
لكن كيف الوثوق بذلك، طالما أن الدين أيضا يبقى خاضعا للقناعات الفردية ومصادما للمصالح الأنانية المباشرة؟.
يمتاز الدين بأنه لا يتوقف عند الوعظ والإرشاد فقط، بل يضع القواعد الأساسية لنمط الحياة الفردية، وعلاقات الناس البينية، وهذه القواعد تسمى الشريعة، والتي تعليماتها ثابتة وأحكامها مطلقة، ليس فيها ظرفيات ولا حيثيات، لذا لا تفسدها المصلحة ولا قدرة للهوى على تطويعها.
لذلك كان الدين من شقين متلازمين: التعبدي والتعاملي، لا يقبل أحدهما من دون الآخر، فالشق التعاملي هو التطبيق العملي لهذه الأيديولوجيا، والشق التعبدي هو السمة الدالة على مدى التنفيذ، ولكن بما أنه أمر بين العبد والمعبود، وغير معلن منه إلا الطقوس، لذا فالخطورة من الإستغراق في مظاهره للتغطية على ضعف المكنون.
يفسد التدين من عدم المساوقة بين الشقين، أو التفريط بأي منهما… هذا هو التفسير الوحيد لحالة فشل الدين في ضبط السلوك.
لو استعرضنا لمحة عارضة من هذه الحالة، وبلا استغراق في التفصيلات، سنجد المجتمعات الفاشلة تكون مغرقة في الفساد أكثر،وبقدر مساوٍ لدرجة ضعف التدين التعاملي، ويزيد ذلك (ولا ينقصه) إن رافقه زيادة في التدين التعبدي، لإنه إذ ذاك يكون تظاهرا شكليا بالورع والصلاح.
بالمقابل يكون نجاح المجتمعات بقدر قوة التدين التعاملي، بغض النظر عن ضعف التدين التعبدي أو قوته، لذلك نجد أن هنالك مجتمعات غير مسلمة قد تطبق الإسلام أكثر من المجتمعات المسلمة.
قد يتساءل المرء عن تفسير ذلك، الإجابة تكون في أنه إذا نقص الشقان معا وبالدرجة نفسها، فذلك دلالة على ضعف تمكن الدين من ذلك الشخص، فضرر ذلك على الدين كمّيٌ جمعيٌ في المحصلة النهائية.
أما إن كان التدين التعاملي في أدنى صوره والتعبدي في أعلى صورة فذلك فيه إفساد للمجتمع، والمُفسد أبلغ ضررا من الفاسد، لأن الفاسد يضر بنفسه لكن المفسد يضر بالمجتمع، إذ يُفقد الثقة بقدرة الدين على ضبط الأخلاق، ويدفع المترددين للإبتعاد عنه.
إن فساد التدين التعاملي عظيم الضرر كضرر من يمزج كوبا من المياه الآسنة ببرميل من عصير البرتقال ، فهو يفسده جميعا بغض النظر عن نسبة التركيز، ومهما أضفت له من عصير طازج طيب (التدين التعبدي) فلن يصلحه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى