نقد أثري هردبشتي / يوسف غيشان

نقد أثري هردبشتي
مدرّجات عملاقة ، أعمدة تطاول الفضاء ، معابد وكنائس عملاقة ، تماثيل ، لوحات فسيفسائية مذهلة ، خرائط ، أسماك تجري بعكس التيار ، مدن منحوتة في الصخر ، أنظمة ريّ من قبل الميلاد ولا تزال صالحة للعمل .
نتطلع مذهولين إلى مدن ذات تاريخ .. جرش .. عمان .. أم قيس .. أم الرصاص .. مادبا .. الكرك .. أينما ولّينا وجوهنا هناك آثار مؤابية أو يونانية أو رومانية أو بيزنطية .. يعني كلّ الشعوب التي سكنت المنطقة تركت بصماتها التي تتحدّى الزمن .
إلاّ نحن العرب العاربة ، فلم نترك شيئا له قيمة حضارية .. غير عدّة قصور منثورة في الصحراء لبعض الماجنين الذين كانوا يستخدمونها للقنص وحفلات اللهو والطرب ، مزينّة بصور مؤخرات نسائية باذخة ، وبقايا قلاع بُنيت أصلاً على قلاع أقدم .. تلك المستشفيات والبيمارستانات لم يعد لها أثر ، وقصر الحمراء وغيره في الأندلس ليس وليد حضارتنا ..حتى لو كان الحكام عربا .
في دواخلنا ما يجعلنا نبني المدينة ثم ندمّرها وكأننا نخشى التقدم والحضارة ، لذلك كانت معظم إنجازاتنا مؤقتة وقابلة للزوال بسهولة .. وهكذا بدل أن يكون التاريخ – تاريخنا –
خطّا صاعدا إلى الأعلى ، يتحوّل إلى خط دائريّ يعود إلى النقطة ذاتها ، لكأننا محكومون مثل بروميثيوس الذي يحمل الصخرة ويصعد إلى الجبل بينما تأكل الجوارح كبده ، وقبل أن يصل إلى القمة يسقط ثانية ليبدأ من جديد .
نؤسّس إمبرطورية كبرى وحضارة عظمى ونؤلف ونترجم أعمالاً علمية وأدبية وفلسفية كبرى .. ثم نتراجع لنعود بدواً في الصحراء ، نبحث عن الماء والكلأ ، وكأننا لم نخرج من تحت الخيمة قط .
ما تزال الطرق الرومانية .. والشوارع المبلّطة شواهد على حضارات كبيرة ، لكننا لم نترك طريقا ولا شارعاً ، لا بل أننا عدنا في الزمن إلى الوراء ، ولم نستخدم اختراع العجلة مع أنه معروف قبل قرون من ميلاد المسيح ، وبقينا نعتلي سنامات النوق .. ولا نعرف غير المديح والتشبيب والهجاء والتفاخر الأهوج ، ولم نفهم المسرح ولا الرسم ولا بقية الفنون .
في الواقع والحقيقة والمنطق أنني عاجز عن فهم الأسباب التي خلقت فينا هذه التركيبة المعادية للحضارة والفن وجعلتنا مجرد حرّاس للآثار القديمة ، لا بل إلى متاحف نتقاضى على دخولها أجوراً ، وإحنا مش عارفين شو الطبخة .
انتقدنا هنا .. ليس لغاية الانتقاص ، لكن لغاية الاعتراف بالمشكلة وإدراكها تمهيداً للبحث عن حلول .. لعلّ وعسى !
من كتابي(هكذا تكلم هردبشت)الصادر عام2011

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. ذكرني مقالك بالطرفة الكركيةالتالية:
    حيث اراد احد الشباب الاستهزاء من رجل مسن يلف التتن ويدخنه…بان قال له: يا رجل الناس طلعت للقمر وانت بعدك بتلف تتن…فما كان من الرجل المسن ان رمق الشاب بطرف عينه وقال له: وانت يا ابو الفصو…..لويه يعدك هون ..ليش ما رحت معهم على القمر……..

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى