مقامــــــات البعــــيريّ / يوسف غيشان

مقامــــــات البعــــيريّ
المقامة الأولى
حدثنا الحوار بن القعود بن الجمل بن البعير وقال :
خلال رحلة طويلة وشاقة إلى بلاد الشمال , حطّت القافلة للرّاحة من وعثاء السفر , وبعد أن أكلنا وشربنا وتنفسنا الصعداء … جلسنا نتسامر .
كان والدي متحدثا لبقا ،وكان مشهودا له بذرابة اللسان وقوة الحجة ، لكنه ضعيف النظر وكان يتبع أثناء سير القافلة ذيل الحمار حتى لا يشذ عن السرب .
تفرّس والدي فينا واحداً واحدا ، ثم قال :
ـ ثقّ يا حواري الصغير ـ والحكي للجميع ـ بأننا ، معشر البعارين ، كائنات ضالعة في العروبة ، لا بل أنّ أصولنا ترجع للعرب البائدة ، و ما نحن بالبائدين كما ترى .. لكننا تعرّضنا ، بعد انهيار سد مأرب ، إلى مكيدة سحرية من أحد ملوك الجن الأشرار ، وقد حولنا ذلك المسخ إلى ما ترى من عبودية وصبر، لأننا لم نرتض التخلّي عن عروبتنا والدخول في جيش الملك سليمان الغازي .. وقد تغلّبنا على سحر الساحر عن طريق الصبر والمثابرة حتى صارت لنا مكانة عُليا لدى أخوتنا العرب .
قلت لوالدي مستفسرا :
ـ لكن يا ( بابا ) ، ألديك دلائل تاريخية على ما تقول ؟
ـ نعم يا حواري العزيز .. تعال ( والحكي للسامعين ) نقرأ اشتقاق الاسم ، إذ تجد أنّ الفعل الثلاثي ( عرب ) ، يمكن أن تتلاعب بحروفه ذاتها : بعر / برع / بعير ، وها نحن أقرب الأسماء إلى العروبة لأننا من الاشتقاق ذاته و الفعل ذاته والفصل ذاته والأصل نفسه .
قلت لوالدي بمكر ومناكفة :
ـ لكن يا بابا ، كلمة (عبر ) هي من ذات الاشتقاق ، وقد جاءت منها كلمة ( عبرانيّ ) وهو اليهودي ، فلماذا لا نكون يهوداً ؟!
نخر والدي وأرغى وأزبد ، ونفض سنامه وقال :
ـ التشابه بيننا وبين العرب ، ليس لفظياً فقط أيّها الحوار المراهق ، ألا ترى أننا نرغي ونزبد حين تهضم حقوقنا ، لكننا لا نفعل شيئا يُذكر .
المقامة الثانية
حدثنا الحوار بن القعود بن البعير وقال :
في جلسة أنس بين أمّي وأبي ، تغنوجت الوالدة الرؤوم على جناب الوالد وطالبته بشراء ستالايت فلّ أوبشن لترى العالم وتثقف نفسها ( كما ادّعت) لكنها في الواقع كانت تسعى مثل صديقاتها إلى متابعة برامج الحنتش بنتش مثل السوبر ستار والستار أكاديمي وما يشابهها من الهمالات .
انطلت الحيلة على الوالد العزيز ، لأنّ كيدهن عظيم كما تعلمون ، ولأنّ جدّتهن ناقة البسوس ، التي أشعلت حربا شعواء أكلت الأخضر واليابس من فرسان العرب وما تزال .
قال والدي لناقته العزيزة ( أمّي ) :
_ معك حق يا قبرة قلبي ، فأنت بحاجة إلى التسلية في وقت النفاس .. كما أنّ مدّخراتي تتآكل قيمتها مع ارتفاع اليورو وانخفاض الدولار.. لذلك اذهبي إلى الزاوية الشمالية من مخزن التبن ، وأخرجي المدّخرات ولنذهب لشراء الساتلايت الذي يروق لك .
كنت استمع إلى هذا الحوار وقلبي يتفطّر هلعاً ، لأنني كنت اختلس من مدخرات أبى دائماً ، ولم يبق منها سوى القليل ، وقد خشيت أن يتمّ اكتشاف فعلتي النكراء التي لا أفخر بها، لكنّ ظروفي صعبة ، وأنا عاطل عن العمل كما تعرفون .
كما يقول العدو الصهيوني فان خير وسيلة للدفاع هي الهجوم ، لذلك دخلت على والديّ هائجاً مائجا وأنا أصرخ:
_ لن يحصل هذا …. لن يحصل ولو على سنامي !…. لا أسمح إطلاقاً بدخول هذا الجهاز الملعون إلى بيتنا ليفسدنا ، وينقل تفاهات الفرنجة إلى غرف نومنا … لن أسمح لأحد من أهل بيتي بمشاهدة (ستربتيز ) البعارين الذي تبثه الفضائيات كلّ ثانية.
هاجت أمي وأرعدت وأزبدت ، فيما كنت أشاهد علامة رضا وإعجاب في نظرات الوالد ، إذ ربّما شعر بأنني أهل لتحمّل المسؤولية وبأنني بعير حارّ الدم والعاطفة وأمتلك رصيدا هائلا من الغيرة على أهل بيتي .
أما أنا فقد أمسكت بأحجار صّوانية وصرت أطرقها ببعضها قرب مخزن التبن ، حتى انطلقت منها شرارة بدأت تفعل فعلها بهدوء.
في المساء شبّ حريق هائل في مخزن التبن أكل كلّ شي ء ، هرب أبى وهربت أمي وأنا نفذت بريشي وبمدخرات الوالد التي كنت سرقتها سابقا . وخرج الجميع سعداء لأنهم نجوا من الكارثة ، أمّا الوالدة الرؤوم فلم تخرج سوى بالسخام.
من كتابي (لماذا تركت الحمار وحيدا)الصادر عام2008

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى