مزبلة طنوس / يوسف غيشان

مزبلة طنوس
أنا وأولاد حارتي لم نكن أولاد شوارع فحسب ، بل كنا أولاد مزابل أيضاً ، إذ ان الميزة الوحيدة لحارتنا عن الحارات الثانية هي أنها كانت تحظى بمعلم حضاري هام ، ألا وهو ( مزبلة طنوس ) وهي قطعة ارض منحدرة سميت باسم عائلة احد مالكي الأرض على ما يبدو. . مزبلة طنوس مدينة ملاهينا ، مراجيحنا … برجنا …. ملاعبنا.. حياتنا .
سباق الصراصير ، هل سمعتم بسباق الصراصير .. ؟ هذا ما كنت مشهوراً بتنظيمه . إذ نقوم أولا بتلقيط الصراصير من تحت الأحجار العظيمة، وندس عيدان الكبريت في مؤخراتها ، ونضعها في وصف واحد ونطلقها للسباق ، كانت الصراصير تحرث الأرض ألما ، ونحن نحرث الأرض فرحاً .
عاطف فقد إصبعه أثناء البعبشة تحت الأحجار عن صراصير جديدة ، إذ لا يخفى عليكم ان المتسابقين كانوا يهلكون فور انتهاء السباق ، انكسر إصبع الشاهد لعاطف ، فعالجته أمه بالعجين والميكوركروم والسلفات منته الصلاحية قبل عقدين ، فأصيب الإصبع بالغر غرينا التي أدت في النهاية إلى قطعه ، وكان هذا أول انتقام صراصيري من حضراتنا .
أما ( الدَبّةْ ) التي تكبر باستمرار في مزبلتنا فقد كنا نستخدمها ( لمراجدة ) الحجارة على السكان تحت ، ثم نهرب ولا يستطيع ان يمسكنا أحد . الآن أشعر بذنب عظيم، لكن القاء الحجارة على الناس في ذلك الوقت كان متعة عظيمة لنا . للعلم فلم نكن نجمع شيئاً من المزبلة لأن صرعه بيع علب المشروبات العازية الفارغة لم تكن قد اكتشفت بعد ، إضافة إلى ان زبالة الفقراء لم تكن تحمل ما هو جدير باحترام ، وكان معظمها من متبقيات الطوابين أو متبقيات تنظيف الكرشات التي كانت المأكول الرسمي لحارتنا العتيدة .
أما مصارين الدجاج فلم تكن تلقيها النسوة في الزبالة ، إذ كانت تتحول إلى ( حوسة ) بينما يتحول ريش الدجاج إلى مخدات ، أما عروق الملوخية – فالحمد لله – كانت متوفرة بكثرة في مزبلتنا ، حيث كنا نلتقط منها ما تبقى من أوراق ناشفة ونلفها في ورق جرائد .. وندخنها حلالاً زلالاً .
الآن، وبعد حوالي الثلاثين حولاً يكرر التاريخ ذاته على شكل مهزلة ، حيث تنقلب الموازين وتتكسر أصابعنا ( ويراجد ) علينا العالم الحجارة من كل صوب ، لكننا لا نهرب ، إنما نختبيء من ( سجّيلها ) القاتل .
تحولنا إلى صراصير … نشترك في صراع البقاء ونموت في النهاية ، فيما تفرز الحياة صراصير ..جديدة تموت ألما، بينما تحرث الحكومات الأرض فرحاً .
من كتابي(برج التيس)الصادر عام1999

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى