نور على نور

#نور_على_نور

د. #هاشم_غرايبه

علق أحدهم على قولي ان الله يسوق الأقدار لينفذ قضاءه، فقال هل ذلك يعني أن ما حدث من تدمير وتقتيل في غزة هو أمر مكتوب، وبذلك نقعد وليس بأيدينا غير الدعاء.
بالطبع فذلك مفهوم ساذج لمعنى القضاء والقدر، فليست الأمور تجري وفق هذه السطحية، ورغم أنني بينت كثيرا سابقا وفي أكثر من مرة، أن القضاء هي كلمة الله التي سبقت خلقه الخلق، بصورة السنن الكونية الثابتة والسنن التكوينية التنظيمية، التي أوجدها الخالق لتحكم مخلوقاته، وتقيد إرادتهم وفقها (وبالطبع لا تحكم إراداته تعالى)، وأن الأقدار هي مجريات الأحداث التي يسوقها الله لتنفذ قضاءه فيها.
وللتوضيح: فالسنن الثابتة هي القوانين الصارمة التي أوجدها الخالق لتسيير شؤون كل مخلوقاته، ولا يمكن للإنسان تغييرها ولا تبديلها: “وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا” [الأحزاب:62]، ” وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا” [فاطر:43]. أولها السنن الكونية، التي نعرف منها القوانين الطبيعية التي تعرف عليها الانسان بالتجريب، وليس بقدرته على التأثير فيها مثل قوانين التمدد والتقلص والاحتكاك والمغناطيسية ..الخ.
وثانيها السنن التكوينية التي نعرف منها القوانين الحيوية التي تحكم حياة الكائنات الحية مثل الحركة والتنفس والتغذية والتكاثر ..الخ.
وثالثها السنن الإلهية في التعامل مع البشر تحديدا، كونهم ترك الخالق لهم حرية الإختيار في الفعل والسلوك والمعتقد، ولم يجعلها مقيدة بما فطرها الله عليه كباقي المخلوقات، لذلك فهو تعالى يحمّل البشر المسؤولية عن أفعالهم وأقوالهم وأفكارهم، فبعد أن أنزل عليهم الهدى لبيان الصالح والطالح منها قطع حجتهم بالجهل فيها، لذلك جعلهم تحت مراقبته اللصيقة، أفرادا ومجتمعات، ومن لزوم ذلك المحاسبة عليها ثوابا وعقابا، سواء في حياتهم الدنيوية، أو تقييم محصلتها التي يحكم بناء عليها بمنزلتهم في الحياة الآخرة.
لذلك تحكم هذه السنن الأفراد والمجتمعات في مدى تقييم مدى أدائهم الأمانة التي استأمنهم الله عليها حين استخلفهم في الأرض لإعمارها، أو خيانة تلك الأمانة.
فهذه السنن الإلهية وضعها الإله لتقيس مدى أداء الإنسان لهذه الأمانة التي أوجده من أجلها، من حيث الإصلاح في الأرض ونفع الغير، أوالإفساد فيها وظلم الغير، ومن حيث اتباع منهج الله وأداء واجب تبليغه، أوالإعراض عنه والصد عنه.
من فهم أن علة الوجود البشري أصلا هي استخلاف آدم وذريته في الأرض، وجعل الابتلاء والتمحيص من خلال حياتهم وموتهم فيها، نفهم أن السنة الإلهية هي سيدة السنن الثلاث في التعامل مع البشر، وما السنتان الأوليتان (الكونية والتكوينية) إلا لخدمتها، لذلك فهي المهيمنة عليهما، لأجل ذلك فقد يوقف بعضا منها أو يحولها مؤقتا لأجل انفاذها، والأمثلة كثيرة، فقد أوقف سنة الإحراق للنار عندما أراد انقاذ ابراهيم، وأوقف سنة الهضم للحوت عندما أراد انجاء يونس من بطنه، وغير ذلك كثير.
لقد جلى الله آياته الباهرة للعقل للناس، فيلمسونها في أنفسهم وفي كل ما حولهم: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” [فصلت:53] ، لكي يتأملوا في مدى دقتها وإحكامها بلا أي تعارض أو تداخل مخل بالأداء، فيوقنوا بالقياس أن سننه بأنواعها الثلاث رغم تعددها وتقاطعاتها المعقدة، لا يمكن أن تتضارب أيضا، ومن غير حاجة لتحكيم عقولهم في مدى معقوليتها، لأن العقل البشري لا يمكنه الإحاطة بالحكم الكبيرة من ورائها.
لو أسقطنا ما سبق توضيحه على ما جرى في معركة الطوفان الأخيرة، سنجد أنه تعالى قد أبطل سننا كونية كثيرة ليحقق سنته الإلهية: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” [الروم:47]، منها أنه أعمى عيون استخبارات العدو واتباعه المنافقين اليقظة عن رصد الهجوم، وأغفلهم عن متابعة أجهزة الرصد المتقدمة ليصل المقاومون بأمان فيحققوا هدفهم، كما أعمى أعداء الله فيما بعد وطيلة 48 يوما عن الوصول الى أماكن احتمائهم مع أنهم مسيطرون على الأرض والجو والبحر، ورغم إمكانيات العدو التقنية الهائلة، فهم بإمكان أقمارهم الصناعية أن تكتشف حتى المعادن في أعماق الأرض، ورصد قطة فوقها، فقد أفشل الله كل خططهم للكشف عن أماكن المحتجزين، وأعمى رصدهم لتحركات المقاومين، فلم يظفروا بأسر أي منهم، ولا باغتيال قائد واحد.
أليست تلك من معجزات السنة الإلهية في نصر من يشاء، وأثباتا لكونها قاهرة لكل السنن الأخرى!؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى