ما نجحت فيه هايدي وفشل فيه بكار

سواليف

يتيمة تتخلَّى عنها عمَّتها بعد أن ربتها لخمس سنوات، وجَدّ وحيد مكروه يعيش أعلى جبال الألب يجد نفسه مضطراً لرعاية حفيدته الصغيرة فيتحول لشخصية رائعة، ترحل الفتاة بعد 3 سنوات من العيش مع الجد إلى فرانكفورت؛ لتلازم كلارا الطفلة الثرية القعيدة، ولكنها تكره عيش المدينة، وتعود مرة أخرى للجد؛ حيث الطبيعة الساحرة، حبكة موجهة بالكامل للأطفال، لا تهتم كثيراً بالدراما وتصاعد الأحداث بقدر ما تهتم بالسرد في تسلسل ناعم ووصف بديع يؤدي هنا الدور الرئيسي في منظومة الرواية.

وعلى بساطة الحبكة وعدم وجود شخصيات شريرة بشكل واضح يمكن من خلالها صناعة عقدة قوية في مسار الأحداث، وعلى خلاف كلاسيكيات أدب الطفل العالمي التي تبرز دور الشرير، وتخلق من وجوده العقبة التي تعوق الحدث، كما في سندريلا أو سنووايت أو غيرها، تجعل “يوهانا شبيري”- مبتكرة شخصية هايدي- من بطلتها شخصية ذات أبعاد خاصة تتحول بعد ذلك إلى الشخصية السويسرية الأشهر حول العالم، بترجمتها إلى 50 لغة مختلفة، إلى جانب عشرات الأفلام والمسلسلات التي تتناول القصة.

وإذا كانت سندريلا قد حصلت في قصتها الشهيرة على المساعدة من ساحرة طيبة لتحضر حفل الأمير، فإن هايدي تمثل في تلك القصة ساحرتها الطيبة التي تقلب حياة الجميع للأفضل، وتهتم لأمر الكل، داعبت هايدي الرغبة البشرية في الحصول على ملاك حارس، وغازلت الآمال الإنسانية في عالم خالٍ من الأشرار، وفي نهايات سعيدة يخرج عندها الكل راضياً، وفي أرض تتسع للجميع، مغازلة وجدت صداها عندما خرج الفيلم الصامت الأول الذي يحكي قصة هايدي للنور عام 1920 بعد عامين فقط من نهاية الحرب العالمية الأولى، وإذا كانت الحرب قد أحدثت جروحاً غائرةً في الضمير الإنساني، فإن العالم وجد في هذه الطفلة اليتيمة نموذجاً يمكن أن يستريح إليه بعد آلام الحرب.

مقالات ذات صلة

فرضية تجد ما يعززها إذا ربطنا بين ثلاثة تواريخ مهمة؛ 1932 حيث الظهور الأول لطرزان في السينما، و1936 حيث فيلم تشارلي شابلن الخالد الأزمنة الحديثة، وأخيراً الفيلم الغنائي الأول الذي يتناول قصة هايدي من بطولة شيرلي تمبل وجان هيرشولت في 1937.

تشترك الأفلام الثلاثة في نهاية واحدة يعود فيها طرزان إلى الأدغال، وهايدي إلى الجبال، ويهجر فيها شابلن المصنع، في تتابع زمني يعطي إشارة واضحة إلى النزعة السائدة في ذلك الوقت، وإلى الرغبة في الهروب من الضغوط التي يخلقها المجتمع الصناعي الناشئ، والعودة إلى الطبيعة الأم التي مثل وصفها والاستمتاع بها عنصراً رئيسياً في رواية يوهانا شبيري الخالدة، وفي المعالجات الفيلمية التالية التي تناولت الرواية منذ 1920 وحتى 2015.

ولعل عدم نجاح معالجة المخرج السويسري ماركوس إيمبودن للرواية في عام 2001 يأتي بالأساس كنتيجة لمحاولته التلاعب بعناصر القوة الأساسية في القصة، ومحاولة إحداث تغيرات جذرية على مستوى نفسية الأبطال، وعلى المستوى التقني بإدخال عناصر الحداثة إلى فيلمه، فيتخيل هايدي تستخدم الإنترنت والهواتف النقالة، إضافة إلى رغبته في تعزيز الدراما وتقوية العقدة بتحويل كلارا -صديقة هايدي القعيدة- إلى شخصية شريرة، ما مثل خرقاً ليوتوبيا عالم هايدي الخالي من الأشرار، وابتعاداً عن البدائية والتناغم مع الطبيعة،

ولعل إيمبودن وعلى جرأة محاولته وفلسفة التغيير التي انتهجها لم يكن يدرك أنه يهاجم بهذه التغييرات المواطن التي أبقت هايدي حية لما يقارب 140 عاماً، ولعل فلسفته التي تعتبر مساعدة هايدي لكلارا في النص الأصلي للرواية “شفقة نابعة من تفكير ساذج”، لم تكن تدرك أن الصغيرة إنما تستمد قوتها من عالم الأحلام والآمال لا عالم الحقيقة، وتُقيم بناءها الدرامي على الإمتاع وإبراز الجوانب الإنسانية بأكثر مما تقيمه على الأسس العقلية الجامدة.

الأمر الذي تنبه له السويسري ألان جاسبونر حين أخرج النسخة الجديدة من هايدي في 2015، فحافظ على عناصر الرواية كما هي، ولم يحدث تغييرات كبيرة على النص الأصلي، بل وظف أدواته الإخراجية جيداً لتعميق هذا النص وزيادة حالة استمتاع المشاهد بالطبيعة على جبال الألب، واستخدم الكادرات الواسعة لاستعراض جمال المناظر وخلق حالة من البهجة البصرية في الأماكن المفتوحة، في مقابل قتامة نسبية في الأماكن المغلقة وفي قصر كلارا بعيداً عن الجبال، بشكل جعل الكاميرا تلعب دوراً في التحكم في نفسية المشاهد فرحاً وحزناً؛ لتعوض النقص الدرامي دون المساس بالتيمة الكلاسيكية التي يحبها جمهور هايدي.

وإذا كانت رواية يوهانا شبيري قد باعت أكثر من خمسين مليون نسخة، وأضحت على مر السنين خياراً محبباً لدى الآباء الذين يريدون أن يصبح أبناؤهم في روعة هايدي، فإنها لم تكتفِ بالنجاح على المستويين الأدبي والفني، بل حقق استغلال اسم الشخصية نجاحات سياحية وتجارية، فأضحت منطقة عيش طفلة الجبل مقصداً سياحياً، وأنشأ مستثمرون مدينة “هايدي لاند”، وبيعت العديد من المنتجات التي تحمل اسمها حول العالم، محققة حالة من النجاح تجعلك تتحسر على الشخصية النوبية “بكار”، الشخصية التي ابتكرها عمرو سمير عاطف مع الراحلة منى أبو النصر، وامتلكت من المقومات والفرص ما يؤهلها لتصبح أيقونة عالمية تستفيد من عناصر بيئتها لو أن أحداً فكر في استثمار هذا العمل، وتحويله إلى فيلم روائي عالمي يستفيد من الفتى الأسمر الطيب ومواقع التصوير المميزة في النوبة وأسوان، كما استفاد ألان جاسبونر من مواقع تصوير أحداث هايدي، غير أن أحداً لم يفكر، فهل نجد قريباً من يستفيد من تجارب الآخرين؟ أو هل نجد مَن يفكر؟.. نتمنى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى