لا تقتلوا جُحا / الدكتور ناصر نايف البزور

لا تقتلوا جُحا
الدكتور ناصر نايف البزور
مَنْ مِنّا لم يقرأ أو لم يسمع بنوادر جُحا و طرائفه؟!! و مَنْ مِنّا لم تُخالج الضحكات ثنايا قلبه و صفحات و جهه و هو يتفاعل مع “نهفات” جُحا و مقالبه و تعليقاته البسيطة… الساذجة… الحمقاء… اللاذعة؟!!!
كم استمتعنا بقَصَص جُحا و الحمار… و جُحا و الوالي… و جُحا و القاضي… و جُحا اللص… و جُحا و التجارة… و جُحا و ابنه… و جُحا و الجيران….
فقد كان جُحا كُلَّ واحدٍ فينا و مِنّا في جميع جُزئيات حياتنا اليومية… فكأنّنا حين نضحك على نوادره نضحك على أنفسنا، لا على جُحا نفسه… و لكنّنا دائماً نُكابر كعادتنا و لا نرى اعوجاج رقابنا و نكتفي “باستهبال” و ازدراء جُحا الذي قَبِل على نفسه طائعاً أن يكون كبش فداء و أن يحمل خطايانا تماماً كما هو حال المسبح أو المخاّص في النظرية اللاهوتية لدى بعض الديانات … 🙁
جُحا يا سادة لم يكن ساذجاً، و لا أحمقاً، و لا بخيلاً و لا مُغفّلاً… جُحا يا سادتي كان شهماً، و مخلِصا، و متفانياً، و عاقلاً و نشمياً كالبعض أو كالكثير مِن نشامى أبناء هذا الوطن المِعطاء… 🙁
عاش جُحا طويلاً حتّى بات لا يقوى على حَمل الأنواء و الأرزاء؛ و أصبح يحاول أن يشكو بعض بثّه و همّه إلى أصحابه… فكَم مرّةً قال جُحا لأصدقائه: أنا لا أمزح… أنا جاد… أنا أقول الحقيقة… صدِّقوني لقد ضِقتُ ذرعاً بهذه الحياة ( لكنّ مَن حوله كانوا يضحكون على جُحا و يقولون: “يجازي بلايشك يا جُحا كم أنت خفيف الظل…” 🙂
يعود جُحا و يُقسم لهم: و الله إنّي لا أمازحُكم… فقد اختنقتُ من هذا الواقع الأليم و لم أعُد أحتمل المزيد… 🙁 فتزداد ضحكاتهم و قهقهاتهم و يقولون: كم أنت رائع يا جُحا… حتّى كذباتك تدغدغ أرواحنا كالنكات و الطرائف… و هذا هو سرُّ روعة طرائفك… فيضحكون و هُم يختنقون ضحكاً و يُردّدون: جُحا يقول أنّه قد ضاق ذرعاً بالحياة هههههه … 🙁
فيبكي جُحا و يصرخ: هل استطعتم أن تفهموا “سرَّ روعة طرائفي” و لم تستطيعوا أن تروا بأمِّ أعينكم مظاهر ألمي و حُزني و تعاستي…. أنتم تكادون تختنقون بضحكاتكم؛ و أنا أختنق بعبراتي و آهاتي و أوجاعي… 🙁 أرجوكم أدركوني و حاولوا مساعدتي… أرجوكم حاولوا أن تُدخلو الفرحة و البسمة على قلبي و روحي فلطالما أدخلتها على قلوبكم على مدى السنين… 🙁
فتتعالى ضحكاتهم المصحوبة بدموع الانبساط و البهجة “بنُكات” جُحا… فيما يُحاول جُحا كبت دموعه بين جفنيه و يستبدلها بابتسامة القهر حتّى لا يُفيد عليهم بهجتهم…. 🙁
عاد جُحا إلى بيته… جلس في غرفته المُظلمة… أخذَ يُناجي روحه و يُواسيها و هو يُتمتم: أنا الوحيد الذي فهمتك… و أعتقد أنّك أنتِ الوحيدة القادرة على فهمي… سأضعُ حداً لمعاناتي و معاناتك الليلة… سوف أنتحر يا روحي العزيزة… ضحكَت الروح و قالت: أرجو أن لا تكون هذه إحدى نُكاتك و مقالبك يا جُحا الحبيب.. 🙁 صُعِقَ جُحا وصمتَ و لم يُعقِّب و لو بكلمة…. و لكنَّ مقلتيه رمَقت روحه بنظر عتبٍ شديد و كادت تقول: حتّى أنتِ يا “روحتس” في إشارة إلى مقولة يوليوس قيصر لصديق عمره بروتس الذي خانه و طعنه في ظهره؛ فقال له قيصر و هو ينزف: حتّى أنت يا بروتس 🙁
و مع انتصاف الليل خرجَ جُحا وبدأ بالصعود إلى قمّة مئذنة المسجد المجاور… عندها رآه أحدُ الجيران… فصاح: ماذا تفعل يا جُحا؟؟؟ حاول جُحا أن يتجاهله… لكنّ الجار اللحوح واصل تكرار الصياح و السؤال… عندها قال جُحا: لقد قرّرت الانتحار يا جاري… ضحك الجار و أخذ يصيح في الحي: هلمّوا هلمّوا… جُحا يُريد الانتحار… اجتمع الناس و تعالت الضحكات و القهقهات و تهامس الناس: كم لدى جُحا من الطرائف و روح الدعابة في جميع المواقف…!!!
نظر جُحا إليهم مودّعاً و هوى بجسده النحيل نحو الأرض مُخضّباً بدمائه و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة… 🙁
اجتمع الناس حوله و هم يتغامزون و يبتسمون و يقولون: لا بُدَّ أنَّ هذه هي إحدى نوادر جُحا الرائعة… ضحك البعض و بدَت ملامح الاستغراب على وجوه البعض… نظر جّحا إليهم و لم يهمس ببنت شفة… لكنَّ عينيه كانت تفيض بالدمع و هي تُعاتبهم و تشكو إلى الله: لقد ظلمتموني حيّا و ها أنتم تظلموني ميّتاً…. 🙁
لفظ جُحا آخر نفسٍ له… و في الليلة ذاتها دفنه أهل قريته لإنَّهم قالوا: “إكرام الميّت دفنه”… و كانت روح جُحا تطوف من حولهم و تقول: ليتكم أكرمتموه و هو بينكم… ليتكم أغثتموه… ليتكم واسيتموه… ليتكم لم تقتلوه 🙁
رحل جُحا و أصبح قبره مزاراً للباحثين عن الطرائف و النوادر و عن روح الدعابة…..
كَم مِن جُحا يعيش بيننا… و كم مِن جُحا رجانا يوماً و استعطفنا طالباً أن نرحمه و نُدخل على قلبه السعادة… كم مِن جُحا…. و كم مِن جُحا…. كَم مِن جُحا بحث عن رغيف الخبز… و كَم مِن جُحا طلب كسوة عياله… و كَم مِن جُحا أراد أن يحصل على وظيفة مراسل… كَم مِن جُحا يريد العيش بكرامة…. 🙁
لا تقتلوا جُحا… فجُحا ما بخِل يوماً عليكم… و لَكَم أدخل على قلوبكم السرور…. و لَكَم … و لَكَم… و لَكَم…
لِجُحا ندعو بالرحمة… و لأهله بطول البقاء و حلاوة الضحكات… و عريض الابتسامات… و ديمومة القهقهات :

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى