في خطاب النوع الاجتماعي

في خطاب النوع الاجتماعي

د. ذوقان عبيدات

لطالما اتهم خطاب المساواة والعدالة بتمرير أجندة أجنبية، فالثقافة التقليدية تميل إلى إلصاق التهمة بحاملي لواء المساواة في خطاب النوع الاجتماعي، مع أنهم يقولون بصوت عال إن ثقافتنا وديننا قدما أعظم تكريم للمرأة، فتقدم المرأة واستقلال شخصيتها، وتعلمها، كلها تقود إلى الخروج المزعوم عن الثقافة.
كتبت مرارا في الموضوع. وفي جريدة الغد نشرت مقالة بعنوان ” إحدى عشرة استراتيجية لتهميش المرأة “وهي
أحدث مبتكرات الفكر الذكوري لإبقاء المرأة بعيدة عن المنافسة. إن خطاب المساواة يعني الحقوق المتكافئة، وخطاب العدالة يعني احترام التمايز، ولذلك تهدف هذه المقالة إلى الجمع بين العدالة والمساواة، والكشف عن مظاهر التمييز التي ما زالت تسود عبر مبررات ثقافية وبيولوجية وفزيولوجية .
تطور الخطاب الجندريّ عبر التاريخ وفق تطورات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية فحين كان الرجل البدائي هو من يجلس في البيت والمرأة تعمل، كان يتزين استعدادا لعودة المرأة، ولذلك كان الرجل “وزيرا للداخلية” والمرأة “وزيرة العمل والشؤون الخارجية”، وبانقلاب الحياة البدائية إلى الحياة الزراعية تغيرت الأدوات تماما وصار الرجل مزارعا والمرأة تدير شؤون البيت، ويبدو أن هذا الوضع استقر واستمر وأنجب ثقافة ذكورية امتدت حتى العصر الصناعي، وبقي الرجل منتجا والمرأة منتظرة عودته!
وهكذا انقلب الانتظار، وصارت حياة المرأة سلسلة من الانتظارات على حد قول أكبر فيلسوفات الجندر . “سيمون دي بوفوار ” فالمرأة تنتظر البيت حتى يتسخ لتنظفه، وتنتظر الماء حتى يغلي لتغسل الغسيل، وتنتظر الأطفال حتى يصحوا لتعد الطعام، وكذلك تنتظر الرجل حتى يعود !!
وفي نهاية العصر الصناعي الذي ما زالت ثقافته مستمرة في المدرسة والبيت والعمل ، وبتأثير من الديمقراطية وحقوق الإنسان ، والمنظمات النسائية، وبداية الثورة المعرفية، فإننا نشهد بداية تغيرات حاسمة: العودة إلى العمل في المنزل، والدراسة في المنزل.
عاد البيت وحدة إنتاجية، لكل فرد دوره الإنتاجي، تغيرت وستتغير قيم وثقافات، ولن يكون للتمييز أي مبرر، فنحن نعيش بداية ثقافة جديدة اسمها ثقافة “بلا” أو “دون”: طائرات دون طيار، مدارس بلا معلمين، مستشفيات دون أطباء، مصانع دون عمال، زراعة دون فلاحين.
لذلك قلّ الدور البشري الذي كان مسيطرا عليه الرجال، وقلت بذلك سلطة أي رجل بل وأي مسؤول: قلت سلطة الدولة وسيادتها على أرضها، وقلت سلطة الحاكم والوزير والمدير، وقلت سلطة الشرطي والأب والمعلم.
لذلك فإن من الحق الحديث عن خطاب جندري جديد. حين كان صاحب السلطة مستبدًا كان خطاب الجندر استعلائيا: كان يتحدث عن جمال المرأة وأناقتها وزينتها باعتبارها متعة وليست إنسانا!، وحين تواضع الخطاب الذكوري اعترف بالمرأة كمكملة للرجل، فهي تكمل ما نقص فقط ! أو كما يقال في لبنان ” فواكه على المائدة”!.
ثم تطور الخطاب بكل خبث – وربما تبنته منظمات نسائية حقوقية لتشيد بالمرأة على أساس أنها: أخت الرجل، بنت الرجل، زوجة الرجل.
فهي دائما مضافة إلى الرجل وليست كائنا إنسانيا مستقلًا ، وقد تألمت حين سمعت ناشطات يمثلن هذا الخطاب !!
وفي عصرنا هذا فإن خطاب النوع الاجتماعي يجب أن يركز على : الكرامة والمساواة الكاملة والعدالة والاستقلال التام ، ثم الشراكة الكاملة الحرة لمن يريد أو تريد شراكة.
في هذه المقالة استعرضت تطور العلاقات، وفي المقالة التالية سأوضح كيف يتفنن الخطاب الذكوري للالتفاف على المنجزات في المساواة والاستقلال .
فنون تهميش المرأة في التعليم: كانت المناهج الدراسية، والكتب المدرسية – ربما ما زالت حتى الآن – في مناهج 2005 وتعديلاتها تمارس تمييزاً عددياً . فتكثر من أسماء الذكور وأفعالهم، و تضطر لوضع أسماء إناث بأعداد قليلة. ويمكن حصر التمييز – المتذاكي بما يأتي: إحداث توازن عددي بين الذكور والإناث، حتى يمكنك حصر أسماء متعادلة عددياً ، وبذلك اكتفى المؤمنون شر القتال، غير أن التوازن العددي كان مصحوباً باختلال نوعي أو وظيفي تمثل بما يأتي:
• كانت وظائف الذكور إدارة وأموالاً وإبداعات وممارسة قوة، في حين كانت وظائف البنات : شرب العصير، وشك الخرز، وتناول الحلويات، و صناعة كعكات.
• كان الذكور عاملين، يجلبون النقود، والأمهات عاملات في المطبخ، وكلنا نعرف كيف أن منهاجاً قديماً للروضة، لم يجد تعريفاً للأم إلا أنها تعيش في المطبخ !
وفي شروحات العلوم أن دروس القوة والدفع تصر على أن لاعب الكرة يدفع الكرة بقوة مهملين إمكان وجود لاعبات. أما في دروس المواد الأخرى، فالمرأة زينة في اللغة، ومتآمرة في التاريخ ، ولا أريد الخوض في مواد أخرى… كانت أسماء الذكور في معظمها – عدا دروس التاريخ والدين – حداثية ومتنوعة في حين كانت أسماء الإناث في معظمها محدودة بتاريخ معين.
هذه الأمور مفهومة جداً أو مكرورة ، ومعروفة لدى الجميع، لكنني أشرت إليها كمقدمة للانتقال إلى أننا نعيش حالياً مرحلة اهتمام بالخطاب الجندري، وللتنبيه إلى أن ” أحداً ما” أو جماعة ما ” أو ” فكراً ذكورياً ما ” قد يحبط هذا الانتقال تحت الاستراتيجيات الآتية في التعليم: الأولى: هي كما قلت المحافظة على التوازن العددي مع الاختلال النوعي، بحيث يبدو أي اعتراض قليل الأهمية. فالمساواة موجودة. الثانية : تقديم المرأة بصورة تقليدية ونمطية، وأحياناً سلبية وهنا ندخل العوامل الثقافية ويقولون لنا هذا هو مجتمعنا! هل تنكرون المطبخ؟ وهل تنكرون الاحتشام؟…. الخ.
وقد أحسن برنامج إدماج النوع الاجتماعي في المناهج المدرسية الذي يدار من قبل وزارة التربية والتعليم – بمشاركة المركز الوطني للمناهج- حين وضع نموذج استبانة لتحليل الخطاب الجندري استناداً إلى الأدوار التي تم تقديم المرأة بها، مما قد يضع حداً للتهميش التعليمي.
أما التهميش المجتمعي والإداري، فقد ابتكر المتحيزون ضد المرأة استراتيجيات أسميتها: فنون تقليل مكانة المرآة. فما هذه الفنون؟
استراتيجيات تهميش دور المرأة: لم يعد بإمكان أحد أن يدعي أن مؤهلات النساء لا تسمح لهن بشغل وظائف قيادية، فالإحصائيات والواقع التعليمي يشير إلى تكافؤ في التحصيل العلمي مع ميل تفضيلي للإناث، ولذلك بدأ التفكير في استراتيجيات أخرى مثل:

  • غياب نماذج نسائية عظيمة- فها هن في البرلمان لم يفعلن شيئاً متناسين أن رجال البرلمان أيضاً لم يفعلوا هذا الشيء!!
  • التعلل بنساء فشلن في إدارة مؤسسات متناسين حجم الفشل الذكوري في الإدارة، بل و حجم الفساد الذكوري في الإدارة!
  • تصميم أعمال يصعب إشغالها من قبل النساء مثل إدارة مشروع صحراوي، أو عمل خارج الوطن أو غيره..
  • إن إدارة العمل تتطلب دواماً مستمراً ، المرأة بحكم ظروفها قد تضطر لإجازات تبعدها فترات طويلة عن العمل.
  • تعميم متطلبات مرنة للوظائف، مثل النجاح في مقابلة شخصية، حيث يتلاعب المسؤولون لإبعاد المرأة بذريعة فشلها في مقابلة.
  • ليس في العالم أي مساواة في النوع الاجتماعي، فالدول المتقدمة نفسها لا تتيح هذه الفرص للنساء. ومن يستعرض جوائز نوبل يصعب عليه إيجاد نساء متميزات.
    طبعاً، في هذا إنكار للتطور السريع عالمياً الذي قد يحقق المساواة في وقت قصير وقبل أن نعدل نحن قوانين التمييز ضد المرأة.
  • الاستعداد لإشراك النساء في لجان نسائية أو وظائف كما يحدث في لجان المرأة في المؤسسات المختلفة، الأمر الذي يكرس خطاب التميز.
    وأخيراً، لدينا نماذج نسائية تميزت جداً في البرلمان – سابقاً – وفي القضاء، وفي الوزارة، وفي المحافل الدولية، وفي الجامعة العربية وفي البحث العلمي. فمتى نغير خطابنا.
    *خبير تربوي

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى