تركيا وسوريا : التحديات والآفاق / د . مخلص الصيادي

تركيا وسوريا : التحديات والآفاق

لا يختلف اثنان بأن صعود رجب طيب إردوغان إلى قمة السلطة في تركيا، كان بداية مرحلة جديدة، في بلد له أهمية خاصة ومؤثرة على مختلف المستويات.

والذي يتابع حركة الرئيس التركي ونشاطاته، وتصريحاته، يكتشف سريعا أنه أمام رجل توفر فيه، وله، وحوله، عوامل كثيرة، أعطته صفة الزعامة، وهي صفة ليس من السهل أن تظهر في المجتمعات، وظهورها في المجتمعات الديموقراطية أكثر ندرة، لأن الحركة والتطور في مثل هذه المجتمعات ـ وتركيا واحدة منها ـ لا تقوم على الرؤى الشاملة، والتغييرات الجذرية، والقفزات، والحشد الوطني العام، وإنما تقوم على البرامج، والخطوات المرحلية التي تلبي احتياجات كل مرحلة، والتي من شأنها أن توفر قبولاً شعبياً نسبياً يتيح حجماً من رضا الناخب يسمح لهذا الحزب أو ذاك بالحكم منفرداً، أو من خلال ائتلاف محدد.

بسهولة يستطيع الباحث أن يكتشف أن إردوغان يمتلك فكرا ورؤية تستوعب، مكانة وقدرات البلد الذي ينتمي إليه: تاريخه، قدراته المادية، إطار تأثيره الإقليمي، مخزون القوة الشعبية لديه، كما تستوعب المعوقات التي اعترضت نموه خلال الفترة الماضية، ثم مكامن الخطر، أو العقد القاتلة في بنية هذا البلد.

ولأنه استخلص هذه الرؤية، وهذا الفكر، من مخزون الشعب التركي، المخزون التاريخي، وتجارب هذا الشعب خلال القرن العشرين، فإنه استطاع أن ينمي هذه الرؤية، وهذا الفكر، في شرايين المجتمع التركي: بين مختلف الشرائح العمرية في المجتمع، وبين مختلف طبقات المجتمع، وبين مختلف المكونات العرقية والمذهبية في المجتمع، وبالتالي أن يحشد لهذه الرؤية والفكر تأييداً شعبياً غير مسبوق. واستطاع بذلك أن يتجنب الإجهاضات التي وقعت فيها محاولات التغيير السابقة في تركيا، ووقعت فيها محاولات التغيير في العديد من المجتمعات العربية.

بسهولة ويسر يستطيع المتتبع لحركة إردوغان أن يكتشف أيضاً أنه يملك الإرادة الذاتية، والقدرة الشخصية، على حمل عبء مشروعه لنهوض تركيا، بعد أن جعله مشروعا لتركيا الصاعدة، وقد اتخذ سبيله لذلك تواصله المثابر مع الناس، مع الناخبين، مع التيارات السياسية والاجتماعية كلها، وكذلك امتلاكه قدرة براغمانية تمكنه من التقدم في المواقف، والتراجع ايضاً بما يحقق مصلحة الشعب، واستمرار التقدم في برنامجه وأهدافه، وبذلك وفر قاعدة تأييد لمشروعه اخترقت كل التقسيمات التي يحتضنها المجتمع.

وعلى مدى فترة حكمه الممتدة منذ العام 2002 أي بعد عام من حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية مقاعد مجلس النواب التركي إثر انتخابات 2-11، تمكن إردوغان من إحداث تغييرات جذرية في المجتمع التركي، وفي بنية السلطة والدستور التركي، وأظهر فشل انقلاب 15 يوليو 2016، أن الشعب التركي حسم أمره نهائيا، وأنه لم يعد يرضا بالانقلابات سبيلاً لتغيير السلطة، وأن النهج لأي تغيير لا بد أن يأتي عبر صناديق الاقتراع، وأظهرت المقاومة الشعبية للانقلاب التي استند إليها إردوغان وحزبه، وهي المقاومة التي أفشلت الانقلاب، أن هذا الموقف يتعدى الحزب الحاكم، كما يتعدى الانقسام الحزبي، وأنه موقف يمثل الإرادة الشعبية الموحدة، والأعلى من كل الانقسامات، وكان الانقلابيون يريدون أن يحولوا دون استكمال تركيا لتحولها الاستراتيجي، ولو تمكنوا من ذلك لكان ذلك نهاية لتركيا، وبداية لمرحلة جديدة في المنطقة كلها.

لقد تمكن إردوغان وحزبه من القفز بتركيا لتكون صاحبة عاشر اقتصاد في العالم، ولتكون الرقم الصعب في التجمعات السياسية والاقتصادية على المستوى الدولي، وليظهر أثرها في المحيطين الإقليمي والعالمي.

في داخل تركيا تقوم نهضة صناعية وزراعية واجتماعية، وحضارية، واضحة، سريعة، ومميزة، أوصلت نسبة النمو الاقتصادي إلى 4،7% عام 2017( سبعة وأربعة أعشار)، ولتصبح من الاقتصاديات العشر الأولى في العالم، وتنفذ فيها مشاريع استراتيجية لخدمة البنية التحية لم يسبق لها مثيل في الحجم والأهمية والاستهداف، منها الطرق والجسور والأنفاق والموانئ والممرات المائية، والمطارات، والمناطق الصناعية، وهي تمد يدها إلى المحيط الدولي من خلال برامج الدعم والتعاون وتعزيز العلاقات والمشاريع المشتركة مع مختلف الدول وخصوصا دول العالم الثالث، وأفريقيا، والدول الإسلامية.

وفي إطار عملية النهوض هذه بدأت ترتسم ملامح التأثير الحقيقي لتركيا في أوربا، وهو تأثير قائم على حقيقة الوزن البشري النوعي لها في الجسد الأوربي، وامتداد هذا التأثير الى داخل هذا الجسد.

فتركيا المعتبرة جزءاً من أوربا، وجزءاً رئيسياً في تكوين حلف شمال الأطلسي” الناتو”، تجاوز عدد سكانها في العام 2017 اثنين وثمانين مليون نسمة أغلبيتهم الساحقة 98%من المسلمين، وهي مجتمع فتي تقل أعمار نصف سكانه عن 30 سنة، في وقت توصف فيه كل المجتمعات الأوربية بالعجوزة، وقد بدأت هذه المجتمعات تسجل تراجعاً في نسبة الولادات عن نسبة الوفيات، أي تراجعاً حقيقياً في عدد السكان.

كذلك لتركيا نحو ستة ملايين مواطن في دول أوربية عديدة معظمهم في المانيا.

وإذا كان الدين الإسلامي يمثل حالياً الدين الثاني في الاتحاد الأوربي لوجود نحو 26 مليون مسلم فيه أي بنسبة تلامس 5% من عدد سكان الاتحاد الأوربي الذي تجاوز 500 مليون نسمة، فإن اعتبار تركيا جزءاً من هذا الاتحاد ـ وهو ما تسعى إليه تركيا ـ، سيجعل الإسلام ينافس المسيحية على المركز الأول، وبالتالي سيهدد المرجعية المسيحية للقيم الأوربية حسب تصريحات العديد من القادة في دول الاتحاد الأوربي.

وتشير القيادة التركية، وكذلك المتابعون للوضع التركي، إلى أن المسار الراهن للنهوض الداخلي، والتأثير الخارجي، والوزن الأوربي لتركيا، يعتبر بداية للمرحلة الحاسمة التي ستدخلها تركيا مع العام 2023، وهو عام انتهاء فاعلية معاهدة لوزان الثانية التي وقعتها الدولة التركية عام 1923 ، والتي جاءت بديلاً لمعادة سيفر الموقعة عقب الحرب العالمية الأولى، وفي هذه المعاهدة ولدت الدولة التركية المعاصرة، وتحددت جغرافيتها، وحدودها مع جوارها، وتم الغاء الخلافة العثمانية، كما فرضت على الدولة التركية الناشئة سياسات معينة داخلية وخارجية لمدة مئة عام.

ولأن هذه الانطلاقة التركية التي يقودها إردوغان جاءت في مرحلة دقيقة بالنسبة لظروف تركيا الداخلية، وكذلك على المستوى الإقليمي والدولي، لذلك أثارت عاصفة من النقد والهجوم على قائد هذه المسيرة، وعلى توجهاته، واستهدفت فيما استهدفت التحريض على هذه التوجهات بزعم أنها تمثل خطراً على الداخل التركي، وعلى المحيط الإقليمي، وعلى الأمن والاستقرار الدوليين.

ولأننا نحن العربَ، أمةَ العرب، مفكريها وساستها، وأصحاب وصناع الرأي فيها، ونحن السوريين على وجه الخصوص، الذين يمر وطنهم الصغير ” الجغرافيا، والشعب، والتاريخ، والمستقبل”، بمرحلة من التدمير والانتهاك لم يتبين بعد كامل أبعادها، ولأننا نحن العرب والسوريين ذوي صلة مباشرة بما يحدث في هذا البلد المرتبط معنا بالجوار الممتد، وبالتاريخ الممتد، وبالدين المتجذر في بنية الشعبين التركي والعربي، فإننا مدعوين إلى قراءة ما يجري في تركيا، وتأثيره علينا جميعا، وعلى مستقبلنا.

وإذا كنا قد سلطنا الضوء بداية على الرئيس التركي ومشروعه للنهوض بتركيا، فإن الملفات التي يمكن أن نفتحها ونحن نحاول فهم ما يجري في تركيا، واتجاهاته، وتاثيره علينا كثيرة، بعضها موروث من المرحلة السابقة ـ مثل عضوية الناتو، والعلاقة مع الكيان الصهيوني ـ وبعضها كشفت عنه مرحلة النهوض وتطوراتها، وهي بحكم حيوية المجتمع التركي الراهنة تزداد يوما بعد يوما.

لكننا هنا ولطبيعة مثل هذا العرض، سنتخير الوقوف على ملف إثنين لهما أهمية خاصة، وتأثير مميز علينا، على العرب عموما وعلى السوريين خصوصا، في هذه المرحلة المفصلية من حياة شعوبنا ودولنا، وهما:

أولاً: التوجه العثماني للدولة التركية الراهنة بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه.

ثانياً: تعاطي تركيا مع الكارثة السورية.

أولا: التوجه العثماني للدولة التركية الراهنة بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان وحزبه.

عثمانية إردوغان، من التهم التي ترمي في وجه القيادة التركية، بدعوى أنها صاحبة مشروع “خلافة” عثمانية، تريد أن تعيد ذلك الزمان، وأن تستعيد تلك المرحلة، وأنها بهذا المشروع تمثل عدواناً على الدول القائمة، وتهديدا لأمن وسلام المنطقة كلها.

وبعيداً عن صخب الدعاية التي يتقاذفها الإعلام ـ وخصوصا العربي ـ في خضم الصراعات الجارية، فإن على الباحث أن يفرق بين أمرين اثنين: بين الخلافة العثمانية، وبين عثمانية الدولة، والمجتمع التركي.

وإذا كان الحديث عن الأولى “الخلافة العثمانية” لا يعدو أن يكون حديث أوهام صنعه بعض الحالمين، ومعظمهم من الحركات الإسلامية العربية، فإننا لا نجد أثراً لهذه الدعوة في فكر إردوغان، ولا في برامج حزب العدالة والتنمية، ومثل هذا الحديث لا يمكن بالطبيعة أن يكون جزءاً من التطلع السياسي التركي القائم على التعددية السياسية والبرامجية في التغيير والتطوير.

أما الحديث عن عثمانية الدولة التركية، والمجتمع التركي، فهذا أمر آخر يجب النظر إليه بتدقيق شديد، ويجب فهم حقيقة هذه الدعوة ومكانتها في بنية المجتمع التركي الراهن، وفي مستقبل تركيا.

وعثمانية الدولة التركية أمر ذو صلة وثيقة بالعرب المهتمين بمستقبل أمتهم جميعا، لأنه يقدم إثباتاً جديداً على الطريق الذي لا بد للعرب إن أرادوا بناء مستقبل لأمتهم أن يسلكوه.

عثمانية الدولة التركية، مسألة متعلقة بهوية الشعب التركي، وهي حاضرة بقوة في فكر وبرامج حزب العدالة والتنمية، وفي فكر وحركة رجب طيب إردوغان، والتدقيق في مسيرة الحزب وزعيمه يدلنا بسهولة على هذه الحقيقة، والكثير من التغييرات الداخلية التي يشهدها المجتمع التركي تدلنا على ذلك، الوقائع تدل عليه قبل التصريحات.

إذ بحكم مشروعه وبرامجه فإن إردوغان كان مدعواً إلى إجراء تغييرات في الداخل التركي على المستوى القانوني والثقافي والحضاري، وقد بدأ هذا المشوار منذ مطلع هذا القرن، وهو يسير فيه بخطى هادئة، لكن مثابرة ومنظورة جدا.

** فهو يتجه إلى استعادة التاريخ العثماني للدولة التركية، وهو تاريخ تخلى عنه مؤسس الدولة التركية الراهنة كمال أتاتورك، وأكدته معاهدة لوزان المشار إليها، ولايُستبعد أن يعمل بطريقة ما على استعادة الحرف العربي إلى اللغة العثمانية، وهو في مسعاه لاستعادة التاريخ العثماني ينفذ برنامجه المعلن، ويعلم الشعب التركي والقيادة التركية، حقيقة أنه خارج التاريخ العثماني ليس هناك تاريخ حضاري تركي.

بدءُ الدولة العثمانية هو بدءُ التاريخ الحضاري التركي الذي نشير إليه، قبل هذه الدولة، كان الأتراك العثمانيون مجرد قبيلة من قبائل عدة، وعند هذا الفاصل التاريخي الذي يسجل تراجع الدولة السلجوقية بدأ صعود الدولة العثمانية.

** استعادة الشعب التركي لهذا التاريخ هي خطوة ضرورية لاستعادة شخصيته وبُعده الحضاري، ولعل في استعادة حرفه ولغته ضرورة لتواصل الأجيال الراهنة والقادمة مع هذا التاريخ ووثائقه، إن المواطن التركي لا يستطيع أن يتواصل مع ذلك التاريخ وتلك الوثائق إلا من خلال ما ترجم منها الى الحرف اللاتيني، أي أن التركي مقطوع الصلة، أو مقنن الصلة بذلك التاريخ وتلك الثقافة، وهذا تشويه لمفهوم المواطنة، واعتداء على حق المواطن في التعرف إلى تاريخه، وثقافته، وآدابه، وقيمه، وليس لهذا الأمر أي علاقة بالحديث عن الخلافة العثمانية كمشروع لمستقبل قادم، إنه حديث عن وضع راهن، عن شعب يريد أن يعيد صلته بجذوره.

** والتاريخ العثماني تاريخ حضاري، الإسلام هو المكون الرئيسي فيه، هذه حقيقة شديدة الجلاء، واستعادة هذا التاريخ، وتمثله، يعني استعادة شرعية التأثير الإسلامي في هذا المجتمع، وفي سياسات الدولة التي تمثله في داخل تركيا وخارجها، وهذا يفسر نمو مظاهر التدين داخل المجتمع التركي.

ونظرة التعاطف والدعم التي يكتسبها النظام التركي في المجتمعات الإسلامية المختلفة، هي نتاج طبيعي لهذه السياسة، ليس في الأمر استغلال من الرئيس ونظامه لمشاعر المسلمين وعواطفهم، ليس في الأمر براغماتية سياسية، بل لعل المدقق يصل إلى نتيجة أن سياسات ومواقف الرئاسة والسلطة التركية هي أقل بكثير مما تتطلع إليه هذه العاطفة الاسلامية داخل تركيا وخارجها، لكن لأن سلطة أردوغان وحزب العدالة تسير نحو أهدافها في التغيير بتؤده، فإنها توفر بيئة النجاح لهذا التغيير قبل أن تقدم عليه.

في العام 1999 طردت النائبة عن حزب الفضيلة “مروة قاوقجي” من البرلمان التركي بسبب كونها محجبة، وذلك حين رفضت خلع الحجاب لأداء اليمين الدستورية، إذ يرفض الدستور العلماني في ذلك الوقت الحجاب تحت قبة البرلمان، وفي الوظائف العامة، وفي الجامعات والمدارس.

” خير النساء غل” زوجة الرئيس التركي السابق عبد الله غول منعت من دخول الجامعة بسبب كونها محجبة، و”سمية وإسراء” ابنتا إردوغان اضطرتا للدراسة في الولايات المتحدة، لأنهما بسبب الحجاب منعتا من دخول الجامعات التركية.

لكن ذلك كله تغير: في البرلمان، في الجامعات والمدارس، في الوظائف العامة، وكذلك في الجيش والشرطة وقطاع الأمن، والذي يزور تركيا يشاهد اعتناء خاصا بالشعائر الدينية والمساجد والآثار الإسلامية، وما قبل الإسلامية.

تركيا هنا وهي تسير نحو المستقبل، تستعيد تاريخها، ووجهها الحضاري، وبالتالي تستعيد صلاتها ببيآتها، بمحيطها الطبيعي.

الأمر يسير بالتدريج، وبالهدوء، ويبدو أن القاعدة التي تحكم هذه المسيرة هي: تسارع أقل مع تأييد شعبي أكثر، أفضل وآمن من تسارع أعلى مع تأييد شعبي أقل.

بشكل مختصر فإن عثمانية الدولة والمجتمع التركي التي يسعى إليها إردوغان وحزبه، وترى صدى وتجاوبا من القوى والاتجاهات الرئيسية في المجتمع التركي هي :

“دمجٌ خلاقٌ بين القومية والإسلام، بين القومية التركية، والإسلام الحضاري والديني باعتباره المكون الرئيس لهذه القومية”.

دمج يستعيد فيه الأتراك ثوبهم الحقيقي داخل مجتمعهم القومي، وأظن أن هذه هي حقيقة العثمانية التركية الراهنة بدقة، لا أكثر ولا أقل.

وما يلفت الانتباه في تعاطي الكثير من الباحثين والمفكرين والسياسيين العرب، أنهم ينظرون إلى هذا التوجه التركي من منظور الصراعات الراهنة، ويهاجمون وينتقدون اتجاه إردوغان وحزبه لأنه يظهر ” عثمانية الدولة التي يريد”. ويتناسى هؤلاء أن عشرات المؤتمرات عقدت في الوطن العربي، ومئات الأبحاث والكتب صدرت، لتحقيق هدف بناء رؤية قومية إسلامية في هذا الوطن تجمع بين العروبة والإسلام، لتُكًون بذلك رافعة إجتماعية وفكرية تعمل على النهوض بالأمة مما سقطت فيه من تفكك وطائفية وصراع وتبعية واستبداد، ويكفي أن نذكر هنا “المؤتمر القومي الاسلامي، بدوراته المتتابعة”، والندوات والمنتديات العديدة التي عقدت في هذا الاطار.

حزب العدالة والتنمية، يستعيد بعثمانيته هذه تاريخه وبعده الحضاري، ويصل الحبل الذي قطعه أتاتورك بحكم تلك المعاهدة، وبحكم توجهه الذي اختاره، وهو يفعل ذلك في مجتمعه الموحد، الذي تولد عبر تلك المعاهدة، أي أنه يتحرك في محيط جغرافي وبشري لاحواجز فيه.

نحن العرب، حينما نشطت دعوتنا وحركتنا ـ منذ نحو أربعة عقود ـ ، لبناء حركة تاريخية تجمع تياري العروبة والاسلام، كنا نتحرك لتحقيق أمرين اثنين: توحيد الجغرافيا والمجتمع، والتطلع لبناء دولتنا الواحدة على ضوء مرجعيتها الحضارية الإسلامية.

ما قلناه هنا حول مشروع النهضة التركية الراهنة، وصلة هذه النهضة بعثمانية الدولة، لا ينطلق من تأييدنا أو معارضتنا لهذا المشروع ولهذا التوجه، وإنما يأتي في إطار كشفنا عن اتجاه حقيقي تقوم به القيادة اللتركية الراهنة تضع من خلاله شعبها ومجتمعها ودولتها على الطريق المتوافق من السنن الاجتماعية.

قبل نحو أربعة عقود كتبنا ـ أنا وصديقي المرحوم مجدي رياض ـ ونحن ننظر إلى الاتحاد السوفييتي، وإلى الدولة اليوغسلافية، أن الفكر السياسي والايديولوجي الذي يقود هاتين الدولتين يحاول أن ” يخًلق ” أمة سوفياتية، وأمة يوغسلافية، وأكدنا أن هذه المحاولات فاشلة لأن الأمم لا تبنى بهذا الشكل، وإنما تبنى في مسار حركة تاريخية طويلة المدى وفي إطار ظروف وعوامل طبيعية، ولم نكن حينها ضد الاتحاد السوفياتي، أو ضد يوغسلافيا، لكننا كنا نرى ونرصد تناقض الإرادة السياسية، والايديولوجيا، مع السنن الكونية.

أمام النموذج التركي الراهن فإن الاتساق متحقق، وقد ينجح أردوغان وحزبه في استكمال مشروعه، وقد تؤدي ظروف عديدة إلى إعاقة هذا المشروع، أو حتى إسقاطه، لكن في كل الأحوال ليس أمام الشعب التركي إلا هذا المسار، ليس هناك إمكانية للنهوض والتقدم إلا عبر هذا المسار، إن النصر أو الهزيمة في الرؤية التاريخية العامة ليسا معياراً، وإنما المعيار صحة توافق هذا التحرك مع المسار العام للتاريخ وسننه.

نحن نؤمن بصحة الاحتكام إلى سنن الاجتماع الانساني وقوانينه، ولذلك فإننا عبر تحليلنا للمسار التاريخي، وعبر تحديدنا للسنن الاجتماعية على يقين، بأن الواقع الراهن المزري الذي يحيط بهذه الأمة ـ أمتنا العربية ـ لا يمثل حكما على مستقبلها، وأنها لابد أن تستعيد مسيرة النهوض، وأن تبني مستقبلها الموحد.

ونحن عبر تحليلنا للمسار التاريخي، وعبر تحديدنا للسنن الاجتماعية، على يقين، بأن هذا الكيان الصهيوني إلى زوال، لا يستطيع الغرب بكل قوته، ولا يستطيع النظام العربي بكل تهاونه وذله، أن يقدم له مصيرا مختلفا.

من هذا المنظور الذي يعبر من فوق وقائع راهنة إلى آفاق رؤية معمقة لتاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى، نعرض ما نرى، ونتابع ونحكم على التطورات التي نشاهدها ونعايشها، بعيداً عن فكرة التاييد أو المعارضة، وفكرة الغضب أو الرضا، وفكرة التفاؤل أو التشاؤم.

الملف الثاني :الأزمة السورية

الملف السوري يمثل واحداً من أهم التحديات التي تواجه القيادة التركية، لأنه تحد مركب، داخلي وإقليمي، ودولي، لذلك فإن تعاطى تركيا مع هذا الملف يتم عبر أربع زوايا ثلاث منها موضوعية:

** زاوية الأمن القومي التركي، وهذه الزاوية تتصل مباشرة بقضية وحدة الأرض التركية، ووجود الكيان التركي، وتمثل مشكلة التمرد الكردي، أهم تحديات هذا الأمن، والموقف من هذا التحدي موقف يتحقق من حوله إجماع وطني بين القوى التركية المختلفة، ولم يتغير هذا الاجماع منذ تفجرت هذه المشكلة الذي تأسس في 25 نوفمبر 1978 وبدء حرب عصابات ضد الدولة التركية بهدف إقامة دولة كردية على أجزاء من الوطن التركي، بعد أن أعطى لنفسه الحق بتمثيل أكراد تركيا، والتحدث باسمهم، والتعبير عن تطلعاتهم، مسندا إلى قوة السلاح الذي يحمله، والعتف الذي بدأ يمارسه ضد الدولة التركية، وضد الأكراد أنفسهم المناوئين له.

** وزاوية الجوار الجغرافي، الذي تغطي 900 كيلو متر حدودا، بين البلدين، وما ينجم عن هذه الحدود من علاقات لا يمكن تخطيها، وتزداد أهمية هذا الجوار بالنظر إلى المشكلة الكردية على طرفي هذه الحدود، خصوصا مع الجهد المكثف والتحالف الأمريكي الكردي لإقامة كيان كردي يراد له أن يمتد عبر كل هذه المسافة وصولا إلى البحر المتوسط، وهو في بعده الحقيقي يريد أن يقسم تركيا ذاتها.

** وزاوية الترابط التاريخي والحضاري بين سوريا وتركيا، فقد بقيت سوريا جزءاً من الامبراطوية العثمانية، طوال خمسة قرون، وخلال هذه الفترة كلها كانت استانبول تحكم سوريا حكما مباشرة، وبحكم الدين، والقرب الجغرافي، والترابط العائلي، تولدت الكثير من الوشائج بين البلدين.

** ويضاف إلى هذه الزوايا الثلاث الموضوعية، زاوية رابعة ظرفية تمثلت في الصراع الراهن في سوريا، وما تولد عن هذاا الصراع من ضغوط على تركيا تمثلت في مظاهر عدة منها: التنظيمات المتطرفة التي اتخذت من تركيا معبرا إلى الداخل السوري قبل أن تتحول لتنيذ عملياتها الارهابية في الداخل التركي، والهجرة السورية المكثفة إلى تركيا، وتردي الفكر السياسي للتنظيمات الإسلامية في الساحة السورية، التي راحت تنظر الى النظام التركي باعتباره نظام خلافة إسلامية، وتحملة عبء هذه النظرة، وأخيراً قيام حركة انفصالية كردية في سوريا وعلى طول الشريط الحدودي مع تركيا، هي جزء من الحركة الانفصالية الكردية في تركيا.

هذا الملف بعناصره الأربعة المتداخلة ضغط بقوة على السلطات التركية وشكل تحدياً سياسياً واجتماعياً وأمنياً لها: للرئيس رجب طيب إردوغان، وللحكومة التركية، وللحزب الحاكم، وللمجتمع التركي، ومن المهم رصد الكيفية التي تم من خلالها الاستجابة لهذا التحدي قبل أن نتوقف أمام التدخل العسكري التركي في شمال سوريا:

1ـ بالمقارنة مع كل الدول العربية جاء استقبال تركيا: الدولة والمجتمع للاجئين السوريين استقبالاً مميزاً، عكس وشائج التاريخ والدين والجوار، على الرغم من أن تدفق اللاجئين فاق كل تصور سابق، فقد كانت السلطات التركية تتوقع في بداية ألأزمة تدفقا لا يتجاوز مائة ألف لاجئ، وأقامت معسكرات لجوء بهذا الحجم قرب الحدود مع سوريا، لكن الواقع تجاوز ذلك كثيرا، حتى تجاوز ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ ـ وليس مقيم لأنه بحساب المقيمين يزداد الرقم كثيراـ، ومعظم هؤلاء من محافظتي حلب وإدلب، ورغم ضخامة هذا التحدي فإن ما توفر لهؤلاء جميعا من رعاية ومتابعة وتسهيلات، لم يره السوريون في أي مكان آخر، وذكرهم الاستقبال التركي الطيب، بأريحية استقبال السوريين لإخوانهم من المهجرين من العراق إبان الغزو الأمريكي لهذا البلد عام 2003، وفي الظروف التي تبعت ذلك الغزو، وللمهجرين من جنوب لبنان إبان العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006.

إن هذا التعاطي الأصيل على عمومه نمى البيئة الإيجابية بين السوريين عموما وبين الأتراك، وبات المجتمع التركي والقيادة التركية قريبة إلى قلوب السوريين، ولم تستطع كل الدعايات السوداء أن تؤثر في هذه البيئة، وبسبب تحولات اقتصادية واجتماعية في العديد من الدول العربية حيث يعمل السوريون، تحولت تركيا إلى مثابة آمنة لهؤلاء، وقد سعى كثير منهم لاستخراج إقامات إحتياطية في تركيا.

2ـ في مرحلة معينة من تطور الصراع في سوريا اتخذت التنظيمات المتطرفة من تركيا ممرا لها إلى الداخل السوري ـ كما اتخذت من دول غيرها ممرا أيضاـ .

وكان يبدو أن السلطة التركية تعاملت بداية مع هذه التنظيمات على منوال ما تعاملت معها السلطات السورية عقب الاحتلال الأمريكي للعراق: إذ حينها اتخذت تلك التنظيمات من سوريا ممرا لها إلى العراق، وليس مقرا لعملياتهم، وكان ذلك يتم تحت عين وبصر وتشجيع ومساعدة أجهزة الأمن السورية، تدريبا وتسليحا ودعما لوجيستيا ، باعتبار ذلك إشغالا للولايات المتحدة عن مهاجمة سوريا.

وحين تفجر الوضع في سوريا، لم تستمر هذه التنظيمات على موقفها ـ ولأسباب ليس هنا مجال التوسع في عرضها ـ وتحولت إلى عنصر فاعل في الصراع داخل سوريا.

وعلى نحو مشابه تكرر الأمر في تركيا، إذ إن هذه التظيمات التي كانت تعتبر تركيا إلى سوريا تحولت لتنفيذ عمليات إرهابية في الداخل التركي، وزاد من خطورتها أنها تتناغمت مع عمليات الانفصاليين الأكراد، فبدت هذه التنظيمات بعد أن تمددت في المدن والريف التركي مهددة للأمن الداخلي التركي، وبرزت كتحد خطير للحكومة التركية، وسال دم كثير في المدن التركية قبل أن تستطيع ضبط هذا الوضع.

لقد صار على السلطات التركية أن تواحه الطرفين معا: المتمردين ألأكراد، والمتطرفين من الجماعات الإسلامية القادمين من مختلف بقاع الأرض، والذين بات لهم امتدادات داخل المجتمع التركي.

3ـ ومما واجهته القيادة التركية بؤس الفكر السياسي للمعارضة السورية في الخارج، وتركيا مركزها الرئيسي.

وخطورة هذا الفكر البائس أنه نظر إلى تركيا في عهد إردوغان وحزب العدالة باعتبارها “دولة خلافة” أو “مشروع دولة خلافة”، ثم تطلعت المعارضة السورية إلى هذه الدولة من خلال مصلحتها الراهنة ورؤيتها لسوريا المستقبل، باعتبار سوريا التي تريد متممة ل”دولة الخلافة” أو متكئة عليها، فكانت بذلك تحمل الطرفين: الدولة التركية والحراك الثوري السوري ما لا يريد ولا يستطيع تحمله، حملته أوهامها مستعينة بذلك على البيئة الإسلامية العامة المحيطة بحزب العدالة والتنمية، والمحتضنة لمشروع عثمانية تركيا، ولم تلتقط هذه المعارضة أبدا خيط “مصلحة الأمن القومي التركي”، وحدود ما يمكن لتركيا أن تفعله، في التعاطي مع الأزمة السورية، وبالتالي لم تعمل على الاستفادة من هذا الخيط وعلى تنميته، وراحت تسوق وهماً صنعته من نفسها مفاده أن تركيا قادرة، وراغبة على حسم الصراع عسكريا في سوريا، وبالتالي فإن القوى السياسية والعسكرية السورية التي تدعمها تركيا تملك أو ستملك في وقت لاحق القدرة على حسم هذا الصراع، وبذلك حملت القيادة التركية فوق ما تريد وما تقدر على حمله.

4ـ ومثًل وجود منظمة عسكرية كردية على الجانب السوري، هي جزء من حزب العمال الكردستاني الذي تحاربه تركيا، وتصنفه كمنظمة ارهابية، ضغطا رئيسا على السياسة التركية وعلى قراراتها إزاء الملف السوري.

وكانت السياسة التركية قاب قوسين أو أدنى من إنهاء تمرد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، ، وأثمرت سياستها التي زاوجت بين الحزم العسكري، والمبادرة السياسية عن وضع هذه الأزمة على بداية طريق الحل، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 28 ديسمبر 2012 عن فتح باب التفاوض مع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني وهو في سجنه بجزيرة اميرلاي ببحر مرمرة، وبدأت المفاوضات فعليا مع أوجلان في 21 مارس 2013، وتحقق تقدم فعلي في هذه المفاوضات أسفر عن إعلان أوجلان وقفا للقتال، وتسليم الأسلحة، وخروج مقاتليه من تركيا، مؤكداً بدء مرحلة جديدة في علاقة حزبه مع السلطات التركية، مرحلة يعلو فيها صوت السياسة على صوت السلاح.

أي أن حزب العمال الكردستاني بدا وكأنه يخطو على درب منظمة “إيتا الباسكية” الانفصالية في اسبانيا وفرنسا، التي اتخذت الخطوات نفسها قبل أن تقرر مؤخرا حل نفسها بعد الاعتذار لضحايا الصراع الذي خاضته على مدى أربعين عاما مضت.

الأمل كان كبيرا في المضي بخطوات فاعلة نحو طي هذه الصفحة، لكن الحزب ما لبث أن أعلن في 22 يوليو 2015 النكوص عن هذا الطريق، وإنهاء مرحلة السلم الأهلي، وبدء عملياته ضد قوات الأمن التركية، كما أعلن في إغسطس 2015 الحكم الذاتي الخاضع لسيطرته في 16 منطقة جنوب شرق تركيا.

إنهيار عملية السلام هذه على صلة وثيقة بتطورات الوضع في سوريا، وبالتحالف العسكري الكردي الأمريكي في سوريا، فقد أنشأ حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا pyd عام 2012 قوات حماية الشعب الكردي، وبدأ الدعم الأمريكي لهذه القوات.

ثم إن القيادة العسكرية الأمريكية طلبت طلبت رفعا للحرج أن يوجد غطاء محلي وطني لهذا التشكيل العسكري العرقي فتم في العام 2015 انشاء ما يدعى ب”قوات سوريا الديموقراطية” وهي تشكيل يمثل الأكراد قوته الرئيسية وعاموده الفقري، وقد اعتمدت الولايات المتحدة هذه القوات الكردية الرئيسية وغطاءها المحلي كقوة وحيدة حليفة على الأرض السورية، تسليحا وتدريبا ودعما لوجستيا، ودفعت بقوات أمريكية لترافقه وتشكل له الحماية في أي ظروف يواجهها.

وبسبب هذا التحالف الأمريكي الكردي سيطرت القوات الكردية وأتباعها على قطاع واسع من شمال سوريا، وبدأت تراود هذه القوات وقيادتها السياسية وهْم السيطرة على كامل خط الحدود السورية التركية، وبعمق مهم داخليا، محاولة وصل كل هذه المناطق بعضها ببعض، ولهذا الغرض اتخذت سياسات تهجير وتطهير عرقي في العديد من المناطق التي سيطرت عليها، وأعطتها اسماء ليس لها سند من التاريخ، ( مثل تحويل اسم مدينة عين العرب إلى كوباني ) في محاولة لاختلاق تاريخ جديد لها، كما راود هذه القوات أمل الوصول إلى البحر المتوسط.

ولم يكن هذا خافيا على القيادة التركية التي كانت تتابع هذه التطورات بقلق بالغ، وهي التي تنظرالى حزب pyd باعتباره جزءاً من حزب العمال الكردستاني، وبشكل أكثر دقة ، فإنها تعتبره الجناح السوري من هذا الحزب، أي أنها تنظر إليه باعتباره تنظيماً إرهابياً يهدد الأمن القومي التركي.

عند هذا التطور بدأ تعامل تركيا مع الملف السوري على نحو مختلف، وقررت أن تستلم بنفسها زمام الأمر، وجاء التدخل العسكري التركي المباشر عنوانا لهذه المرحلة .

التدخل العسكري التركي في شمال سوريا

الأخطار التي تحيط بالأمن القومي التركي هو أهم ما يشغل القيادة التركية في المرحلة الراهنة، وأهم تحديات هذا الأمن تجسد في المسألة الكردية، على الجانبين: داخل تركيا، وعلى وفي الجانب السوري من الحدود السورية التركية.

وإذا كان التحالف الأمريكي الكردي شكل تحديا بارزا للقيادة والمجتمع التركي، فإن هذه القيادة بدأت التحرك العسكري الحاسم لمواجهة هذا الخطر، وتمثل هذذا التحرك بدفع القوات التركية الى مناطق سيطرة المسلحين الأكراد على الجانب السوري من الحدود، المرحلة الأولى كانت عملية درع الفرات، والثانية عملية غصن الزيتون، والهدف من العمليتين كما قال الرئيس التركي “تطهير خط الحدود مع سوريا الممتد إلى 900 كيلو مترا من المسلحين الأكراد، وإعادته آمنا إلى السوريين، مؤكداً أن لامطامع لبلاده في الأرض السورية”.

وهذه العملية معقدة بسبب وجود القوات الأمريكية إلى جانب المقاتلين الأكراد، وبسبب التحالفات السرية بين هؤلاء المقاتلين وبين نظام دمشق، وبسبب وجود إيران ونفوذها في سوريا، وبسبب التعاطف الروسي مع المطالب الكردية، وهي عملية خطرة قد تستغلها أطراف دولية في مقدمتها الولايات المتحدة لإشغال تركيا وقيادتها، وعرقلة تقدمها ونهضتها العامة.

ونظن أن هذا الوضع الميداني والسياسي المعقد كان حاضرا بقوة في التحالفات والاتفاقات التي بدأت تجريها القيادة التركية بشأن سوريا مع كل من روسيا وإيران، وفي الصفقات التي عقدتها تركيا مع روسيا بشأن الأسلحة الروسية، وبشأن المشروعات الاقتصادية الاستراتيجية.

وبشأن التدخل العسكري التركي من المهم أن ننتبه إلى ما أعلنه الرئيس إردوغان والتزم به:

“لامطامع له في سوريا، وسيعيد خط الحدود الذي يعمل للسيطرة عليه آمنا الى السوريين”. وفي تصريحات لاحقة قدمت القيادة التركية تفاصيل إضافية بهذا الشأن

إن هذا الاعلان وما تبعه يشكل استراتيجية الموقف التركي من الملف السوري في هذه المرحلة، ويمكن أن نترجم هذه الاستراتيجية في نقاط محددة:

1ـ كل أرض سورية دخلتها القوات التركية ستعود إلى الدولة السورية.

2ـ العودة يجب أن تكون آمنة، و العودة الآمنة تتطلب شرطين إثنين :

أـ إنهاء وجود المسلحين الأكراد في هذا الشريط الحدودي، وعودته إلى وضعه الطبيعي السابق. وتأمين كل ما يمكن أن يثبت عدم عودة خطر المسلحين الأكراد إلى هذه المناطق

ب ـ وجود سلطة في دمشق يأمن لها السوريون فيعودون مطمئنين إلى ديارهم، وهذا يعني أن عودة هذا الشريط الى الدولة السورية يفترض توافق السوريين على السلطة الحاكمة في دمشق، وهو أمر يشكل الأرضية الطبيعية لعودة اللاجئين السوريين الى مدنهم وقراهم.

إذن فإن استراتيجة الأمن القومي التركي باتت تقوم على شعبتين:

** الانهاء الكامل للوجود العسكري الكردي في المنطقة وللبيئة المفرخة والحاضنة له.

** حل سياسي توافقي للأزمة لسورية يولد بيئة آمنة للسوريين، حاضرهم ومستقبلهم.

أي أن هذه الاستراتيجية باتت تتضمن ضرورة وجود حل سياسي حقيقي في سوريا. يؤمن الانتقال من هذا النظام المستبد الطائفي الفاسد ، ويحفظ وحدة سوريا، ووحدة الشعب السوري، ويشكل ضماناً لأمن تركيا، وفي مضمون هذا الحل تعارض مع كل طرح لسوريا المستقبل قائم على مفهوم” قيام دولة اتحادية في سوريا”، لأن أساس هذه الدولة، والدافع إليها هو تقديم مكاسب وتنازلات وخصوصا للحركة الانفصالية الكردية، وليس هناك تنازلات تطالب بها هذه الحركة إلا في ذلك الشريط الحدودي الذي يشكل الوجود الكردي المستقل أو شبه المستقل تهديدا للأمن القومي التركي.

وأمام هذه الاستراتيجية والظروف المحيطة بسوريا وتركيا والمنطقة يبقى السؤال: إلى أي مدى تستطيع القيادة التركية تحقيق هذه الرؤية، والمضي قدما في انجاز متطلباتها؟.

خاتمة

ما عرضناه بعض مما يتبين من المسيرة التي يقودها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه داخل تركيا وتأثيراتها في الملف السوري، الذي تشعب كثيرا وتعقد كثيرا إلى درجة دفعت بروسيا ” حليف النظام السوري وحاميه” إلى التشكيك فيما إذا كان المستقبل سيحمل فرص البقاء لسوريا موحدة، أم أنها على طريق التقسيم.

ولقد اصبح واضحا الدور المهم والمتعاظم لتركيا في راهن الوضع السوري ومستقبله، كما أصبح واضحا أن بقاء سلطة الأسد ونظامه في سوريا، شأنه شأن بقاء المشروع الكردي في سوريا، كلاهما مانع من بقاء سوريا موحدة، ومن وجود فرصة حقيقية لاستعادة سوريا لوحدتها الوطنية، ولانتمائها العربي، كما هو مانع من ولادة نظام ديموقراطي في وطننا يوفر الأمن والسلام والتقدم لأبنائه.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى