دور التعليم في نهضة دول جنوب شرق آسيا / موسى العدوان

دور التعليم في نهضة دول جنوب شرق آسيا

بمناسبة تعديل المناهج الدراسية في وزارة التربية والتعليم، بغرض تطوير العملية التعليمية، فقد حفزني ذلك بالكتابة عن أنظمة التعليم التي مارستها دول جنوب شرق آسيا، ونهضت بمجتمعاتها من حالة التخلف لتصبح في مصاف الدول المتقدمة، متجنبا الخوض فيما يدور على ساحتنا الأردنية هذه الأيام من حقائق واتهامات، حول تعديل المناهج الدراسية لعدم معرفتي بتفاصيلها.

فعندما نسمع أو نقرأ أسماء تلك الدول، يتبادر إلى أذهاننا سؤال جوهري وهو : ما سرّ هذه النهضة والازدهار الاقتصادي العظيم الذي تتمتع به تلك الدول، رغم أنها فقيرة بمصادر الثروة الطبيعية، وكانت دولا متخلفة في منتصف القرن الماضي ؟ والدول التي أقصدها هي: اليابان، كوريا الجنوبية، ماليزيا، سنغافورة. وهناك أيضا الصين وهونج كونج اللتان تبعتاهما في وقت لاحق، ولكنهما غير مشمولتين في هذا المقال.

من الواضح أن أهم محور ارتكزت عليه خطط التعليم في تلك الدول، هو محور ” الاستثمار بالإنسان ” من حيث العناية بتعليمه وتأهيله، باعتباره الركيزة الأساسية في النهضة الحديثة. ولهذا فإن الاستثمار بالعنصر البشري جاء على راس أولويات الخطط التنموية. ومما عزز ذلك شخصية الإنسان المنضبطة والتي تحترم النظام، وتقدر قيمة الوقت، وتلتزم بأخلاقيات العمل وأمانته. وفيما يلي تلخيص للأساليب التي اتبعتها تلك الدول.

1. اليــابــان: فبعد الكارثة الذرية الرهيبة التي حلت بها في أواخر الحرب العالمية الثانية، فقد السياسيون ومعظم الناس الأمل بقدرتها في الوقوف علة قدميها نظرا للدمار الذي حل بها وحولها إلى دولة مهزومة ومتخلفة. لكن العزيمة والإرادة التي كانت مغروسة في قلوب اليابانيين أقنعتهم بأن نهضة الوطن تكمن في الإنسان الياباني داخل حدوده.

وفي الإجابة على السؤال المطروح في مطلع هذا المقال قال السفير الأمريكي أدوين أشاور ما يلي : ” إن سر هذه النهضة يمكن تلخيصه في سببين، الأول هو إرادة الانتقام من تاريخ تحدى أمة هزمت وأهينت، فردت على الهزيمة بهذا النهوض العظيم. والثاني هو بناء الإنسان نتيجة لنظام التعليم والثقافة اليابانية “. فقد آمن اليابانيون وعلى رأسهم رئيس الوزراء ” هاياتو أكيدا ” بأن العلم والعمل الجاد هما سبيل الرقي والتقدم “، فتم التركيز في هذا المجال على دعامتين رئيسيتين هما: ( المعلم، وأسلوب التعليم ) وتم التعامل معهما كالتالي:

أ‌. المعلم : يحتل المعلم مكانة مرموقة في المجتمع الياباني ويظهر ذلك من خلال نظرة الاحترام التي يكنها الشعب له، والمرتبات المغرية التي تقدمها له الدولة وتوفر له حياة كريمة ومستقرة. ورغم أن المعلمين هم من خريجي الجامعات، إلا أنهم لا يحصلون على هذه الوظيفة إلا بعد اجتيازهم لاختبارات شفوية وتحريرية شاقة.

ب‌. أسلوب التعليم: يتم المزج بين النظامين المركزي واللا مركزي، فالأول يوفر المساواة في نوعية التعليم لمختلف فئات الشعب على مستوى الدولة. وبذلك يتم تزويد الطلاب بأساس معرفي موحد، إذ تحدد وزارة التعليم الإطار العام للمقررات الدراسية في كافة المواد، وتبين محتواها وعدد ساعات التدريس اللازمة لكل منها. أما في الثاني فيعتبر مجلس التعليم في كل مقاطعة مسئولا عن إدارة وتنفيذ تلك السياسة التعليمية، والتركيز على نبذ الأساليب التلقينية في العملية التعليمية، وعدم الطلب من التلاميذ حفظ المعلومات التي تُنسى في وقت قصير. وبدلا من ذلك يجري التركيز على تنمية رغبة الطلاب بالتعلم، وتطوير قدرتهم على الدراسة والبحث وتنمية رغبتهم بالإبداع والابتكار.

وتعليم التلاميذ من أول ابتدائي وحتى سادس ابتدائي مادة تسمى” الطريق إلى الأخلاق “. ومن خلالها يجري غرس المفاهيم وبناء الشخصية والشعور بالمسؤولية، وتنمية روح الفريق. كما أن التلاميذ وأساتذتهم يقومون بتنظيف مدارسهم كل يوم. وعند وجبة الغداء يتناول المدرسون الطعام من أكل التلاميذ قبلهم بنصف ساعة للتأكد من سلامته، باعتبار أن أولئك التلاميذ، هم مستقبل اليابان الذي يجب حمايته. وهكذا تحولت اليابان من دولة تتلقى المساعدات، إلى دولة ذات اقتصاد قوي تقدم المساعدات إلى دول العالم النامية.

2. كوريا لجنوبية: أطلق الجنرال ” بارك شونج هي ” في مطلع ستينات القرن الماضي، حملة شاملة للتنمية الاقتصادية تحت شعار ” تحديث كوريا ” ارتكزت على عدة محاور من أهمها محور التعليم. فقد كان بارك مقتنعا بأن وراء كل نهضة اقتصادية واجتماعية نظاما تعليميا فعالا. وهذا يتساوق مع الفلسفة الكونفوشيوسية التي تقول: ” بأن التعليم هو المفتاح الوحيد للنجاح في الحاضر والمستقبل “. وعليه جرى التأكيد على أهمية التعليم المهني باعتباره أساس التطور في البلاد.

ومن أبرز ما تم اعتماده في هذه الإستراتيجية ما يلي: اعتبار التعليم في المرحلة الابتدائية إلزاميا، وفي المرحلة المتوسطة إلزاميا في بعض المناطق، أما المرحلة الثانوية فهي غير إلزامية وغير مجانية، وتم إتباع سياسة ” التوجيه والإرشاد الطلابي ” من خلال مدرسين مختصين بحيث يكون معلم المرحلة الابتدائية قد أكمل أربع سنوات من الدراسة في كلية التربية قبل ممارسة المهنة. ويشترط في مدير المدرسة أن يكون قد أمضى 25 عاما في حقل التدريس قبل توليه وظيفته. كما أن الحكومة تخصص ما نسبته 21 % من موازنتها للتعليم، وتوجيهها نحو التعليم المتميز (QUALITY EDUCATION) والاهتمام بالعلوم والتي أطلق عليها اقتصاد المعرفة ( KNOWLEDGE ECONOMY ).

1. سنغافورة:
أ. اعتمد نجاح هذه الدولة الصغيرة على رئيس وزرائها ” لي كوان يو ” الذي تولى الحكم فيها عام 1959 فبدأ مشروعه بالتركيز على ( بناء الإنسان)، مؤكدا بأن العلم هو السبيل لنهوض الدول، حيث قال: ” إن الدول المتحضرة تبدأ نهضتها بالتعليم، وهذا ما بدأت به عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جدا، فأوليْتُ الاقتصاد اهتماما أكثر من السياسة ، والتعليم أكثر من نظام الحكم ، فبنيت المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج لتلقي العلم، ومن ثم الاستفادة من دراساتهم في تطوير الداخل السنغافوري “.

ب. يأخذ النظام التعليمي في حيثياته ” الأهلية والاستحقاق “. فبعد ست سنوات من التعليم الابتدائي المجاني، يتقدم الطلبة لامتحانات تحدد قدراتهم واستعداداتهم، ومن ثم يتم إرسالهم إلى مدارس ثانوية تتناسب مع قدراتهم الذهنية. فالأقدر من بينهم يتوجه إلى أفضل المدارس الثانوية. أما الطلبة الذين لم يثبتوا جدارتهم للذهاب إلى الثانوية، فإنهم يذهبون إلى مدارس تجارية تعدهم للعمل.

ج. وبعد أربع سنوات من الدراسة الثانوية يتقدم الطلبة إلى امتحان آخر يحدد من يذهب إلى الجامعة ، ومن هو أقل منه قدرة يذهب إلى الكليات التقنية للتدرب على مهارات العمل . وأما الذين يذهبون إلى الجامعات ، فإنهم يتقدمون لامتحان آخر بعد سنتين. فإذا كان أداؤهم عاليا فإنهم يكملون التعليم الجامعي، وبعكس ذلك يتجهون إلى الدراسات المهنية.

4. ماليزيا: لقد آمن الدكتور مهاتير محمد عندما تولى الحكم كرئيس للوزراء في أوائل السبعينات من القرن الماضي، بإمكانيات الشعب الماليزي وقدراته على اللحاق بركب التقدم. فرفع عدة شعارات منها شعار ( انظر شرقا)، أي إلى اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، للاقتداء بما حققته من نهضة اقتصادية. وشعار ( ماليزيا بوليه) أي ماليزيا تستطيع أن تتقدم وتفعل ما يفعله الآخرون. وهكذا نهضت ماليزيا لتصبح في مقدمة الدول الصناعية.

وعندما ننظر إلى تلك الدول التي تفتقر إلى مصادر الثروة الطبيعية، وكانت حتى منتصف القرن الماضي في حالة تخلف وفقر وبطالة، وبوضع اقتصادي أسوأ مما كانت عليه الأردن، ولكنها نهضت في أقل من ربع قرن وأصبحت في طليعة الدول الصناعية المتقدمة، بهمة زعمائها الذين أخلصوا وعملوا من أجل رفعة بلادهم. وبالمقابل فنحن في هذا البلد رفعنا شعار ” الإنسان أغلى ما نملك ” منذ أواسط الستينات، ولكننا لم نعطه حقه من العناية فتخلفنا عن قطار التقدم، وأصبحنا اليوم في وضع أسوأ مما كنا عليه في العقود الماضية، ننوء بمديونية تناهز أل 35 مليار دولار، بفعل مخططين ومسؤولين لا تهمهم مصلحة الوطن، فباعوا أصول الدولة المنتجة ولم يعملوا على تطويرها. فكانت النتيجة التخلف في مختلف المجالات وعلى رأسها تردى مستوى التعليم وسوء الإدارة، لكي نتكئ على مساعدات الدول المانحة وكرم أهل الخير.

وقد لفت انتباهي في نهاية الأسبوع الماضي برنامج ” دبلوم تأهيل المعلمين ” الذي أطلقته جلالة الملكة رانيا العبد الله. وهو برنامج جيد وعلى الطريق الصحيح لنهضة التعليم في البلاد، ولكنه برنامج غير مكتمل وعالج جانبا واحدا من العملية التعليمية وهي تأهيل المعلم. أما الجوانب الأخرى والتي لم يتم التطرق إليها فهي: راتب المعلم الذي يوفر له الاستقرار والأمن الاجتماعي، تجهيز المدارس بوسائل الراحة والمرافق الضرورية والوسائل التعليمية المتطورة، توفير المناهج التي تتمسك بأهداب الدين وتحث على الأخلاق الفاضلة وتنمي الروح الوطنية، توفير المعلمين المختصين بمختلف المواضيع، وبأعداد كافية من بداية العام الدراسي.

وهنا أتساءل : لماذا لا تنظر حكوماتنا الموقرة ( شرقا )، وتقلد تلك الدول فيما ذهبت إليه وحققت الازدهار الاقتصادي المطلوب ؟ لماذا لا ترسل حكوماتنا المعلمين للمشاركة بدورات تخصصية في تلك الدول، لينقلوا عنها ما يناسبنا من تجاربهم الناجحة، بدلا من التقيد بخطط وبرامج نظرية لا تعالج جذور المشكلة ولا تحقق ما نصبو إليه من تقدم ؟ فهل من رجل رشيد يبشرنا بثورة تعليمية بيضاء، تعيد بناء السياسة التعليمية على أسس متينة، وتحقق طموحات الأمة في التقدم والازدهار ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى