“حبة تحت اللسان” / وليد معابرة

حافظوا على الطاعات وحضور الجمع والجماعات؛ نداءٌ يردده بعض الخطباء حال انتهائهم من خطبة الجمعة لحثِّ الآخرين على التعلّم وتوسيع المدارك، وتأصيل المفاهيم، فضلاً عن تعميم الثقافات وغرس مبادئها في نفوس الآخرين، كما أنّه نداءٌ آخر يردده خطباء آخرون لبيان أنهم على استعداد تام لتزويد الجلساء (في الخطب القادمة) بمزيد من المواعظ المتكررة والقصص الدينية المحققة وغير المحققة، فالنوع الأخير يمتلك استطاعة مطلقة في قلب المشهد الواقعي إلى مشهد تراجيدي اجتماعي حال استعانته بابتسامة رقيقة تتبعها جملة “سبحان الله” التي يمزجونها بنغمة يعتريها الحزن والعاطفة؛ فتكون لديها القدرة على إرخاء العضلات وتوسيع الشرايين والأوردة الطرفية لدى معظم السامعين، فضلاً عن أنها تمتلك القوة لتوسيع الشريان التاجي وتحسين التدفق الجانبي للمناطق التي لا تصلها التروية بشكل جيد، بالإضافة إلى منح القلب قوَّةً إضافية لضخ الدم بميوعة تامة، خاصة إذا التفت الخطيب إلى الرؤوس المهتزة التي تعلن قبول تلك الأساطير، فتنفتح قريحته حالئذٍ؛ فيستدعي الانفعال ليبدأ بالصراخ وإطلاق العبارات وتصنيف البشر إلى فئات، ثم نعت الشعوب الكافرة وإسقاط ما وصلت إليه الحضارات، مستثمراً تلك الجملة التي باتَ مفعولها يساوي مفعول الحبة المنعشة للقلب التي يطلق عليها الأطباء اسم “حبة تحت اللسان”.

لا بُدَّ لنا من الاستطراد نحو مفهوم الابتسامة أولاً؛ فمنها ابتسامة شفافة تدل على معانٍ عميقةٍ تشير إلى الصفاء والنقاء، ومنها ما يشير إلى معانٍ توقِع صاحبها بإثمٍ فادح؛ كابتسامة الرجل الذي يبتسم لأخيه وهو يرتكب فعلا حراماً…، وما ينطبق على مفهوم الابتسامة ينطبق على مفهوم التسبيح أثناء سماع أو ممارسة فعلٍ ما؛ كما حدث مع أحد العلماء المسلمين في الحادثة التي جمعته بأحد الكبراء من العشائر، فيقول: “بينما كنت في مجلسٍ عند أحدِ الكبراء وكان ينطقُ بكلامٍ غريبٍ يناقض شريعة الله، حتى سمعت أحد الجالسين يقول: “سبحان الله”، فقلت في نفسي: ما ظننت أنني أعيش حتى أرى وأسمع أن كلمة سبحان الله يأثم قائِلُها”.

إنَّ لجملة “سبحان الله” الصادرة ممن يعتلون المنابر أثرين متناقضين، أحدهما يحمل بين طياته أجمل معاني التفكُّر الخالص، خاصة إذا امتزج بأسلوب دعوي متقن من أساليب الدعوى التي تغرس المنظومة القيمية الكاملة في نفوس الآخرين، وأما الأثر الثاني فهو يناقض الأول في آليته ونتيجته، وإن مستخدميه يعتلون المنابر فيأتون بأساطير لا يقبلها العقل البشري بأيِّ حال من الأحوال، فيستعينون بابتسامة يتبعها التسبيح؛ فيغرس مفاهيم خرافية لا وجود ولا أصل لها بطريقة لا تحترم عقول السامعين، متغافلاً عن أن إتقان اللغة العربية شيء، وإتقان العقلية العربية شيء آخر، فالمفهومان يبتعدان عن بعضهما كبعد المشرق والمغرب.

ذات مرة كنت أستمع لإحدى الخطب الصارخة، حيث كان الخطيب فيها يجول بخاطري كيفما شاء وأينما شاء؛ فتارة يقذفني إلى أعلى قيم اليوتوبيا المجتمعية فأرى النصر قد اقترب، وتارة أخرى يغرسني ويخسف بي في وَحل القصص الخرافية فتشتعل حرباً عاتية تكاد تقسم رأسي إلى نصفين، خاصة عندما تَطَرَّقَ إلى زمن المعجزات وأراد أن يمنحها صفة الخلود؛ فقال وهو مبتسم: “سبحان الله إن الجنود الأفغان كانوا يرمون الحجر الأول فتنفجر الدبابة الأمريكية وينهال الجنود بالتكبير، ثم يرمون الحجر الآخر فتنفجر دبابة أخرى…، وإنَّهم كلما رموا حجراً تنفجر دبابة من دبابات العدو”، وهكذا دواليك حتى ماتت “رابعة”، ومات “شحير بنُ حنجلي”، وانتحرت “حرقوفة بنت حرقفي”…، ومات “شحنفون بنُ حنجلي”…، وماتت “تحلبيسة بنت حلتبيس”…، وماتَ الممثلون جميعا في ذلك المسلسل، ثم ماتَ المنتج والمخرج…، وحينما عرض هذا المسلسل في التلفزيون ماتَ المشاهدون جميعاً.

مقالات ذات صلة

بصراحة هيك مضبطة؛ بدها هيك ختم

وليد معابرة / جامعة آل البيت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى