مُلحِن مولانا !! / أمير شفيق حسانين

مُلحِن مولانا !!

كنت في عزاء بقرية مُصطاي بقويسنا، وكان مقرئ المأتم، هو أحد قامات إذاعة القرآن الكريم ، ووجدت نفسي – كعادتي- متشوقاً للاستماع لصاحب الصوت الشجي ، وعندما وصلت إلي” دوار الخواطرية ” حيث مكان العزاء، وجدته يكتظ عن آخره بالمعزين والعاشقين لصاحب الأداء الجميل.
كان الحضور ما بين جالس وواقف،المكان مزدحم للغاية.. الجموع غفيرة، العيون تترقب..والألسنه تتأهب لإعتزال لهو الحديث إحتراماً للقرآن..الآذان تتهيئ تشوقاً لحُسن الإنصات ، والقلوب تسترجي قرآناً يشفي عِلتها،والأفئدة تبغي إنشراحاً وثباتاً بحلاوة النور المبين..جو روحاني يفيض بالنفحات النورانية ،يحيط بمجلس الذكرالحكيم.
كان محبو الشيخ في سعي لأن يكونوا علي مقربة من منصَته ، خاصةً أن أهل تلك القرية ، يشتهرون بحبهم الجمْ لمقرئي القرآن الكريم ، فتجد شيوخها وشبابها، بسطاءها ووجهاءها يحرصون على حضور المآتم لتشجيع مقرئيها ، والدعاء لهم بالفتح لهم والرضى عليهم، فتجد حال المستمعين ما بين ذاكر لله ومُكبِر وخاشع وباكي ومُتعِظْ.
وبينما كان المقرئ يتلو ما تيسر من آيات سورة “الشعراء”، إذا ببصري يقع على شخص، متوسط المظهر والثياب، وقد جذب نظرات الحاضرين إليه ، عندما رأوه جالساً بالقرب من الشيخ ، مُستخدماً إحدى يديه ليصنع إشارات كالموج أثناء تلاوة القرآن، وكأنه يُلحن ما يرتل المُقرئ من آيات، أو يرسم علي الهواء ما يُؤده الشيخ من مَقامات قرآنية ، ثم علمت أن صاحب السلوك المِعوَج، قد جاء بصُحْبَة مقرئ القرآن الكريم!!
كان صاحب الشيخ دائم التبسُم ، دائم الحركة ، دائم المزاح ..غير مستقر في مكانه ، يتجه نحو الشيخ من حين لآخر، ليُقبل رأسه ، لا يتوقف عن توجيه عبارات مُضحكة للمُقرئ بزعم تشجيعه على التلاوة بطريقة أروع!! حركات الرجل أتعبت آذان المستمعين وأدهشت أبصارهم ، وجعلتهم في حيرة من أمرهم ، أينظرون إلي صانع اللهو أم ينصتون إلي مقرئ الآيات البيِنات ؟!
كان صاحب مولانا المقرئ ، متوهماً بأنه كوميديان ، قادر بقفشاته المُضحكة بأن يحشد جمهوراً كبيراً في حب الشيخ ، غير مُدرك بأن صانع سخافات وبِدعْ ، تضر وتؤذي آداب الإستماع لكلمات الله.
كان مُلحن مولانا ، يقوم ويقعد ، يُطلق من فيه صفات مضحكة وعبارات مُزعجة وغير مألوفه ، يُوجهها للمقرئ تارة ، وهو يتحدث إليه بصوت عالي ، وتارة أخري يلتقط له الصور ، ولوفود المعزين ، بكاميرا صغيرة لم تُفارق يده.
وفي إحدي مرات تقبيل مُلحِن مولانا لجبين المقرئ ، وعند قيامه من مقامه ، إذا به يصطدم بشيء اعترض ساقيه ، فيقع على الأرض أمام منصة الشيخ ، فيدخل المعزون في حالة ضحك وقهقهة عالية جداً ، وكأنهم يشاهدون فقرة كوميدية ، لكومبارس أو مونولوجست علي خشبة المسرح ، غير معتبرين من آيات كريمات تُتلي عليهم !!
استاءت نفسي غضباً من المزاح الجماعي المتبادل أثناء تلاوة القرآن ، وكنت غاضباً من ضحكات تَرتفع، وبدع تُتبع، وأصوات لا تنقطع، وضجيج يؤذي سمع كل مستمع ، والقرآنُ يُتلي بلا تقوي بلا ورع !!
أما أهل الفقيد ، فكان حالهم التفاخر، والظنون تغويهم بأن سلوكيات صاحب الشيخ ، هي السبيل الأعظم نحو نجاح عزائهم .. ليُصبح ذلك العزاء ، حديثاً للقاصي والداني .. فتتحاكي به ألسنة أهالي القرية ، بأنه كان كذا وكذا ، يقصدون أن العزاء كان فاخراً ، ولا مثيل له !!
كنت مُستنكِراً لهو وجهلْ ، مُرافق مقرئ العزاء، متعجباً من ترحيب المقرئ بالأفعال الماجنه لصاحبه ، أما أصحاب الميت ، فقد شغَلَهُمْ إستطلاع آراء المعزين ، بشأن فخامة وبهرجة عَزَائهم الذي تعدي تكلفته آلاف الجنيهات، ولو تصدَقوا بها علي فقراء القرية لكان خيراً لهم !!
كان أهل المُتَوَفَي يبحثون عن دلالات ، تبعث الطمأنينة في قلوبهم بشأن نجاح عزائهم ، من خلال النظر في أعين المعزين الفرحة والمنصرفه بعد العزاء ، ووجوههم الضاحكة ، وألسنتهم المدَاحه !!
وبعد أن إنتهت التلاوة .. خرجت من دوار مصطاي بالمنوفية ، عائداً إلي بيتي وأنا أسترجع بذاكرتي بعض مشاهد العزاء ، وسلوكيات المازحون وأصحاب الجاهلية ومَنْ ضحكوا أثناء تلاوة آيات الوعظ .. إنهم لم ينشغلوا بالدعاء للميت ، ولم يعنيهم حالُه ، وقد صار في معسكر الموتي ، فما أحسَ الضاحكون بوحشة الميت في قبره ، بل ربما لم يتذكره أي مازح بدعاء ينفعه ، عجباً لأهل الدنيا .. يدفنون موتاهم ولا يعتبروا لهم !!

Amirshafik85@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى