الكيميائي الأول / يوسف غيشان

الكيميائي الأول
كان جدي لأمي ، هو الكيميائي الأول في مادبا ، فأنا اتحدر من عائلة علمانية ملعونة حرسة ، جدي الأول مؤسس العشيرة كان أحد سدنة الكعبة على آلهة العزىّ كما يقولون ، ومنها – كما يدعون – تم ابتكار اسم عشيرتي ( العزيزات ) ولا نُعدم من بعض الكبار الذين يحاولون تبييض اسم العشيرة وإعادة التسمية إلى أساطير أكثر إشراقا . أما جدّ عائلتي الأكبر فقد تزوج يوم لم تكن الإقليمية قد تناسلت بيننا ،من فتاة من عائلة ” ابو غوشة ” أو من قرية أبو غوش في فلسطين ( لا أذكر الاسم فلم أكن موجوداً آنذاك ) فصار الأبناء يلقبون بأولاد الغيشانية حتى لصق بنا هذا الاسم الشركسي قليلاً الذي استوردناه من مناطق بيت لحم أو من القدس .
نعود إلى الكيميائي الأول جدي لأمي السلطية الأصل الذي لم يفقد لهجنه السلطية رغم تغرب أسرته في مادبا من بدايات هذا القرن .
معمل جدي مكون من غرفة حجرية كبيرة وعالية ، ذات سطح ترابي مزين بالقصّيب و ( القباسي ) وتفوح منها رائحة مواد كيميائية حادة كان جدي يسميها ( ميّة نار ) وقد تكون حامض الكبريتيك أو النيتريك ، وكانت تستخدم في علمية ( تبييض ) الأواني النحاسية والقدور .
ها قد كشفت لكم عن مهنة جدي ، فقد كان أمبيّض درجة أولى ، على اعتبار أنه المبيض الشرعي الوحيد في مادبا . بوردة تشبه تلك التي تستخدم لمعالجة ( سماط ) الأطفال ، كان يستخدمها أثناء التبييض ، ثم كان ينط في القدر – بلا رشاقة – ويشرع في هز خصره على طريقة سيء السمعة والصيت مايكل جاكسون ( اللي أجريه مثل الشواعيب ) ، الذي ربما يكون قد حصل على دروس مهمة في طريقة ( النط ) من والد أمي .
كان جدي هادئاً جداً ، لكن وما تكاد سيقانه تستقر في قعر القدر أو الطنجرة حتى يتحول إلى مخلوق نزق يسب ويلعن ويشتم . وكان هذا الانفعال يعطيه الطاقة اللازمة لإنهاء العمل الشاق و تحويل ( القدر ) النحاسي الصدئ ( المجنزر ) إلى بوتقة لامعة بيضاء ، وصالحة للطبخ البشري.
جدي – رحمه الله – كان طموحاً ، لذلك فقد مد طموحاته إلى عالم الطب ( ما حدا أحسن من حدا ) ، وأجرى أو تجاربه على أخي الأصغر الذي كان قد أبتُلي بدمل صغير في نتصف نافوخه ( قد تكون ثعلبة ) . وقد أقنع جدي والدي بأن يحاولا معاً تطبيب ( دبسه ) أخي عن طريق استخدام ميّة النار ( ما غيرها ) . وهكذا ملأ الطبيبان المستجدان ( قطّارة ) من هذه المادة الحارقة ودلقاها على ( جبهة ) أخي ، الذي فقد الوعي على الفور ، فاستبشر الطبيبان خيراً ، لكن أخي لم يفق حتى بعد ان رشّوا عليه طناً من النشادر . وحولناه إلى الـ ( I.C.U ) واستمر علاجه على يد الدكاترة غير المستجدين عدة اشهر حتى شفي من عواقب هذه التجربة العظيمة .
توقف جدي ووالدي عن أعمال الطب التجريبي ، وعاد أبي إلى مهنته ، ورجع جدي إلى تبييض الطواسي .
آه يا جدي كم نحن صدئون وقدورنا مجنزرة ومقلوبة .
آه يا جدي ، كم نحن بحاجة إلى من يبيّض طناجرنا .. .. أرواحنا … وجوهنا .
آه يا جدي كم نحن بحاجة إلى ( ميّة نار ) .
من كتابي(برج التيس)الصادر عام1999

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كم انت رائع يا أستاذ يوسف

    ليتنا نرجع لأيام جدك الاول و نقتل الإقليمية من بيننا

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى