الخديعة الكبرى / منى الغبين

الخديعة الكبرى
ذهبت إلى فلسطين وعدت بعد أن قضيت ثمانية أيام في ربوع تلك البلاد .
شاهدت الوطن المحتّل الذي اتفق المتسيدون على إسقاطه من الحساب وأعني به حيفا ويافا وعكا فرأيت أرواح الشهداء الابطال ممن أستشهدوا على ثرى القدس وباب الواد واللطرون , تطوف بالأمكنة يغطي مسحة حزنها جلال الإباء وهيبة الغضب إلاّ أن دمعة القهر نزلت حرّى فاخترقت كلّ قلب حرّ شريف , تستنهض الهمم وتوقظ النيام , وتزرع الأمل .
إنّ بالقلب لحرقة وفي الفؤاد لغصّة مما رأيت وسمعت وعلمت , لقد رأيت شعبا حيّا عاملا منتجا مقبلا على الحياة , منظما , سائرا في طريق التقدّم , صاعدا إلى المعالي , واثقا من نفسه , متفوقا في عزمه وحزمه على شعوب البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكا , ويقابله شعب بأوضاع مزرية مظهرا ومخبرا يكاد يكون بصورة معاكسة تماما لأولئك ……. نعم لقد رأيت شعبا يحيا بالعلم والمعرفة وتطبيقاتهما ويقابله شعب يقتل بالجهل ونتائجه الطبيعية يظهر ذلك في نظافة المدن والشوارع واحترام القانون والنظام وما إلى ذلك من مظاهر الرقي وضده .
رأيت سلطة حقيقة تخدم شعبها ودولتها , ويقابلها سلطة وهمية مرعوبة من العدو ومرعبة لشعبها …….. هناك شعب واثق متفائل مقبل على الحياة يقابله شعب يائس بائس يشعر أنّه يفتقر إلى كلّ شيء فتسوده مشاعر الاحتضار , فتتقافز الأسئلة إلى الذهن :من الذي أوصل هذا الشعب لهذه الحال اليائسة البائسة ؟؟ أليس هذا هو النتيجة الطبيعية لتقزيم قضية فلسطين وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي واعتبارها قضية تخصّ شعب فلسطين وحده ؟ أليس هذا هو أحد النتائج الطبيعية للثورة البائسة التي استقطبت جميع الأبطال فقدمتهم قرابين على مذبح الخيانات العربية حيث تمت تصفيتهم بالجملة والمفرّق لتؤول الثورة إلى مجرد منظمات سياسية تستجدي رئاسة بلدية فاسدة من العدو ومخفر شرطة لقمع شعبها وإذلاله ؟؟ لتكون الفصل قبل الأخير على اكتمال المؤامرة على وطن قدسته السماء وتعلقت به الأفئدة دينا ودنيا عبادة وسياسة !!
إسرائيل تسير وفق إستراتيجية صامتة دؤوبة لدفع أهل فلسطين لتركها ففي المدن المحتلة عام 1948م يسكنها العرب في بيوت آيلة للسقوط لأنّه ممنوع عليهم ترميمها أو إعادة بنائها أو إصلاح ما يعتريها من خلل !! ثمّ يأتي دور السلطة الممسوخة التي أغرقت الشعب بالديون عن طريق تسهيلات البنوك ليظلوا مشغولين بمعيشتهم بعيدا عن التفكير بالحقوق لئلا يتطور تفكيرهم إلى التحرير والتطهير , والعجيب أنّ هذا الكيان بقدر رعايته للطاقات البشرية من أبناء شعبه فإنّه يحارب العقول المتفوقة من شعب فلسطين ليدفعها للهجرة .
تيقنت بأن ليلنا طويل , ورحلة التحرر والتحرير لم تبدأ بعد , وأنّ ما يجري هو دوران في نفس الحلقة المفرغة والدوامة المهلكة , فهناك دولة تجند كلّ طاقاتها للبقاء والتقدّم , وتخلق طاقات الشعب وتفجّرها في مسيرة البناء والنماء والارتقاء , ويقابلها دول تعمل جاهدة على تعطيل طاقة شعوبها وتجميدها في ثلاجة الموتى بسعي متعمد للإفناء .
التحرير من الداخل كان خديعة كبرى في الماضي أما اليوم فهو مجرد كذبة سمجة لا تقنع الأطفال فالشعب وصل لحال من اليأس والبؤس والإحباط إلى أن انحصر همّه وفكره بمتطلبات الحياة البيولوجية فحسب فالشعار السائد عند عامّة الناس للبيت ربّ يحميه , وكأنّ هذه المقولة التي صدرت من رجل جاهلي قبل حوالي ألف وخمسمائة عام _ إن صحت نسبتها إليه _ أصبحت قرآنا منزلا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه , مع التجاهل التامّ لما يقوله القرآن بهذا الخصوص وهو الذي توضحه الآية الكريمة التالية :(( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرً )) .
أجول في نظري من المحيط إلى الخليج فلا أرى إلا أوطنا مغتصبة تعوم بدمائها وترزح بأثقالها فكلّ قطر هو قضية بحد ذاتها لا تقلّ تعقيدا عن قضية فلسطين فهل من سبيل للخروج من تلك الغابة فليس بالضرورة أن يكون الطريق بوسطها وهل نستطيع كسر الدائرة التي ندور في داخلها فليس بالضرورة أن ينحصر الحل داخل خطها الوهمي ؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى