الجزية / د. هاشم غرايبه

الجزية

وأخيرا وجد العلمانيون لدينا طوطما يطوفون به هازجين متغنين بأفضاله وهو الدولة المدنية.
في حقيقة الأمر أن التخوف من الدولة الدينية لا مبرر له ، فعبر تاريخ البشرية لم تقم دولة دينية إلا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرأسها نبي : داود وسليمان ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكانت الصورة المثالية للدولة العادلة.
أما الدولة الإسلامية فلم تكن دينية، فلم يكن يرأسها مرجع ديني يتحصل على شرعيته بإسم الله، ولم يكن للفقهاء وعلماء الدين تراتبا كهنوتيا ولا أي دور إداري في الحكم، فكانت إدارتها مدنية تماما.
في العصر الحاضر هنالك دولتان فقط تتبعان النظام الديني هما الفاتيكان، حيث يرأسها البابا الذي يملك صلاحيات إلهية فهو يرسم القديسين ويمنح القداسة، مكل إداراتها خاضعة للتراتب الكهنوتي.
الصورة الثانية هي بريطانيا، فالملكة هي رئيسة الكنيسة الأنجليكانية وهي التي ترسّم وتمنح القداسة كالبابا، وتملك كل شيء على الأرض وفي البحر والجو (كالإله تماما)، لكن الحكومة علمانية ولا تجد غضاضة في أن تكون تحت سلطة الدولة الدينية!.
من هنا نرى أن هذا الطوطم المسمى: الدولة المدنية لا يزيد قدسية عن أصنام التمر الجاهلية، يأكله العلمانيون متى جاعوا.
لذلك يلجأ هؤلاء الى التخويف ببعض مفردات الدولة الإسلامية، ومنها الجزية.
لغويا: جزى تعني كافأ ، وأجزى الشيء عن الشيء قام مقامه، واصطلاحا هي البدل الذي يدفعه المواطن الذمّي للدولة من نتاج الأرض التي يستثمرها، مقابل إعفائه من بعض الواجبات كالخدمة العسكرية والزكاة.
إذاً فهي ليست غرامة على من كان يقطن في الدولة الإسلامية لكنه اختار أن يبقى على عقيدته غير الإسلامية، كما يحاول معارضو الدولة الإسلامية أن يفسروها ، بل هي بدل نقدي يدفعه مقابل تمتعه بميزات المواطنة الكاملة من خدمات وحماية ورعاية صحية واجتماعية، والتي يحصل عليها مثل المواطن المسلم الذي يدفع الزكاة وينخرط في القوى العسكرية والأمنية دفاعا عن الوطن وأمنه وسلامة مواطنيه.
طبعا لا يصح أن يطلب ممن لا يؤمن بعقيدة الأمة أن يدافع عنها، فالمقاتل في الدولة الإسلامية هو مجاهد تطوع دفاعا عن العقيدة تلبية لأمر الله، فكيف سيدافع عنها من لا يؤمن بها ولا بأنها من الله؟، فلو آمن بها لاعتنقها وبالتالي لم يعد ذميا.
وعليه فإن الجزية نظام إقتصادي إجنماعي وليست غرامة أو عقوبة توقعها الدولة على المغلوب الذي يرفض دخول الإسلام.
على أنها تؤخذ مقابل الحراب، لذا فإن غير القادرين على القتال لا تؤخذ منهم الجزيـة ولا من امرأة ، ولا صبي، ولا فقير، ولا شيخ، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا راهب، ولا مختل في عقله ، كما أن الجزية مقابل الحماية والأمن فإذا لم تستطع الدولة حماية المتعاهدين معها فلا تؤخذ منهم الجزية .
ولما لم يعد العالم مقسما كما كان عندما قسمه الفقهاء الى : دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب ودار العهد والصلح، فهو الآن مترابط متصل لا تفصله حواجز ثقافية أو حضارية أو علمية ، فلا بد من اجتهادات فقهية معاصرة تتناسب مع واقع العالم الحاضر.
إن اعتبار آدمية الإنسان وبقاء العمران واستمرار الحياة والاستخلاف والتعامل بالمثل هي من مقاصد الشرع، والفقه المقاصدي يمكننا من خلال استخدام أدواته مثل الاستحسان والمصـالح المرسـلة والعـادة والعرف من التعامل مع مستجدات الزمان من غير تعارض مع المقاصد الكلية للشريعة وقواعدها ونصوصها القطعية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى