ليتهم يستأذنون عندما يرحلون / د . ديمة طارق طهبوب

ليتهم يستأذنون عندما يرحلون
هناك برد لا يدفئ، وهناك ظلمة لا تضيء، وهناك غيمة لا تنقشع، وهناك ربيع لا يزهر، وهناك دموع لا تجف، وهناك شفاه لا تضحك، وهناك جراح لا تندمل! يعرف كل هذه المشاعر من ذاق فراق حبيب وقلبه مطمئن بالإيمان.
يوم لامت الزهراء فاطمة الصحابة وقد عادوا حزانى من دفن رسولهم صلى الله عليه وسلم وتساءلت: يا أنس أهان عليكم ان تحثوا التراب على وجه نبيكم؟ قالتها وهي مؤمنة بالله وبقدره ولكنها لواعج من فقدت أبا ومن في الآباء مثل محمد بن عبدالله؟
في أول ليلة أمضتها زوجة حنظلة بعده لا بد أنها كانت ذاهلة تستذكر ساعات كانت فيها عروسا تلتها ساعات أصبحت فيها أرملة! التاريخ خلد حنظلة غسيل الملائكة ولكن ماذا عمن شاطرته حبا وقربا واحلاما وانتسابا؟ كيف كان موقف العروس وهل نتخيل الا حسرة ولوعة مع أن اللسان لا يقول إلا ما يرضي الله؟
ومن يعيب على نبي الله المؤيد بالوحي ان ابيضت عيناه وشاب شعره وقلبه من فراق ولده يهرب من عالم البشر المتربص الذي قال له انك لفي ضلال الى عالم رب البشر ليشكو حالا لا جلد له عليه! وكيف يشكو يعقوب الى ربه؟ أكان يخلع ثوب النبوة ليقف بأسمال الضعف البشري منطرحا على عتبات الرب ويقول: يا رب ولد حبّيتَه الى نفسي من بين ولدي، وقلبي بين يديك لا يخفي عليك، اللهم رد البعيد وأغث عبدك الملهوف، وارحم قلوبا ليس لها ملجأ سواك.
بقدر ما نحاول استنطاق مشهد خفي مضمونه ودقائقه وتفاصيله علينا إلا اننا نعرف ان الرحمة والتمكين في الخواتيم كان بذارها في دموع عين الشيخ الضرير يوم نظن انه قال لربه: اللهم انه يوسف وانت ارحم الراحمين.
وما كان حال صفية عمة رسول الله وهي ترفع دعاء منكسرا الى الله فتقول «اللهم يا من علا فقدر وعز فقهر اجبر من أمتك هذه ما انكسر» أو ما كان يكفيها لتتصبر وتتحمل انها من آل بيت النبي المؤمنين ولهم شفاعة وعهد؟ وماذا عن لأواء الدنيا، وهل عندما يضج الفؤاد بالبلاء ويرفع المشتكى الى رب السماء زعزعة ايمان وقلة يقين؟! وبماذا نُقْدِم على أسماء الله في الرحمة والجبر واللطف الا بانكساراتنا وهمومنا ومشاكلنا؟!
نعم في الفقد قهر لا يعادله قهر وكأن روح الحياة تموت في الأحياء، وكأن كل فقيد يأخذ معه جزءا منا حتى اذا ما دقت ساعتنا لم يبق فينا الكثير ليذهب فقد ذهب أغلبنا مع من سبق من الأحبة، وهذه حالة بشرية لا تناقض ايمانا ولا تشكك بقدر، ولا يخفف من الفقد فيها كون الموت كان عظيما في ساح الوغى او على فراش، فهذه أمة حتى أصحاب الفرش فيها شهداء ان عملوا بعملهم وتمنوا ختامهم وان لم يرزقوا خاتمتهم كما جاء في حديث «اكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش».
لماذا بكى المصطفى حمزة مع انه كان سيد الشهداء؟ لماذا بكى جعفرا وهو يطير في الجنة؟ لماذا بكى خديجة وقد بشرت ببيت فردوسي من قصب لا نصب فيه ولا صخب؟ ولما يبكي عليهم وما خُتم لأحد بمثل ما خُتم لهم؟ وهل في ذلك من اعتراض أم رحمة جعلها الله في قلبه لأيتام وأرامل وثكالى وأحباء كانوا عضدا وسندا وما انجبر مكان فقدهم بعدهم ولا كان لهم بدلاء على فضل كل من تبعوا من بعدهم؟
محزون يا رب ولا اقول الا ما يرضيك، أوسد فلذة كبدي في التراب ولا أقول الا ما يرضيك، فهل رضي اللسان فأرضى الله القلب وسكّنه؟ لم يغضب الله من محمد الأب أنه حزن فهو أعلم بما خلق في قلوب عباده.
الفقد فقد سواء أكان موتا او شهادة في نفوس من بقوا بالأثر
عندما ينفض الجمع وتبقى أم تموت كل يوم بذكريات من حملته وليدا ترجو حياته ليكون عكازتها في كبرها وحامل نعشها عند مماتها والمكبر عليها في جنازتها وموسد لحدها في قبرها، هكذا الحال في الاغلب فكيف انقلبت الآية لتدفن الأم ولدها وتعيش تنتظر لقاءه؟ سيبقى الفقد حاضرا والابناء يسألون متى سيرجع الأب من الجنة او لماذا لا نلحق به، سيبقى الفقد حاضرا عندما يشتاق قلب الزوجة ويتعب جسدها من حمل الغياب ومعاركة الدنيا وحدها.
يؤنس القلب ويصبر الفؤاد مكانة الشهداء وعظيم أجورهم وأمارات قبول الصالحين من الأموات ويبقى حزن عميق لا يفهمه بشر فيعالجه ولا تمر عليه الأيام فتغيره، ذاك حزن لا يهدأ الا في رحاب المولى ولو تكرر الموعد كل ليلة الى انقضاء الأجل، فنوع الحزن هذا لا يكشفه الا الله
ارحموا الباقين من بعد موتاهم وشهدائهم ولا تنظروا عليهم ولا تفرضوا عليهم سلوكا معينا، فالله أذن لنبي بالشكوى أفلا يرحم بشرا يألم أحيانا وأحيانا يرضى؟
ليت للراحلين وقتا نعلمه فنشفي الصدور والقلوب الملتاعة بشيء من وداع؟ ليتهم يستأذنون أو يخبرون عندما يحين موعد رحيلهم!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى