الضوء الكشاف

الضوء الكشاف
د. هاشم غرايبه

بينما كان عشرات الآلاف من الشعب التركي يتزاحمون فرحين للوصول الى مسجد “أيا صوفيا” في اسطنبول، لأداء أول صلاة الجمعة فيه، بعد انقطاع دام 84 عاما بسبب إغلاقه من قبل نظام أتاتورك العلماني وتحويله الى متحف، كان اليونانيون يرفعون الأعلام السوداء حدادا على عودة ذلك البناء بيتا من بيوت الله يذكر في اسمه.
قد يتساءل المرء تساؤلا ساذجا: طالما أن اسطنبول أرض تركية، ولا تنازعها اليونان ولا غيرها على ملكيتها، فما دخلها لتفرح أو تحزن بما يفعله الأتراك في بلادهم.
فإن كان دافع اليونانيين الانتصار للكنيسة البيزنطية، فلا يتحقق ذلك ببقاء المكان متحفا دينه الإلحاد.
وإن كان نصرة لله الذي هو ذاته الذي معتقدهم وفي معتقد المسلمين، فما الضرر وإظهار الحداد والحزن الشديد من انتقال المكان من تمجيد اللاإله (الرموز البيزنطية) الى تمجيد الله وحده بلا أي شريك أو وسيط؟، بل لو كان الدافع إيمانيا حقا وتقربا الى الله، لفرحوا بانتقال المكان من الإلحاد الى عبادة الله، مثلما فرح المسلمون عندما انتصر الروم المؤمنون على الفرس الوثنيين.
ولماذا توافق الغربيون وأتباعهم الشرقيين جميعا على إدانة ذلك التحويل، طالما أنهم يدّعون أنهم علمانيون أي لا يؤمنون باتباع أي من الأديان، بل لا يدخلون الدين في حساباتهم، فلماذا السخط على قرار سيادي لبلد مستقل، فيكون عندهم دين مقبول وآخر مرفوض!؟.
إذا فالقضية أعمق وأبعد، والعلمانية المدّعاة ما هي إلا “برقع” خادع، وما أوجدوها أصلا لكي تحقق الحريات، فتدع الناس أحرارا في اختيار معتقدهم، بل بدأت كوسيلة لإخراج الكنيسة الأوروبية من ميدان منافسة أصحاب المال الجشعين، وإبقاء نهب أقوات البشر مقتصرا عليهم، وعندما نجحوا توسعوا في التطبيق خارج أوروبا لمحاربة العدو الحقيقي لتحالف الشر التاريخي: السلطة الطاغوتية والجشع، والذي مسماه الحديث: الإمبريالية، وهذا العدو هو الدين حامي الحقوق والأخلاق القويمة.
وهكذا بعد أن تفرغ الإمبرياليون من حروبهم البينية، بسقوط منافسهم الإتحاد السوفياتي، أصبح التفرد بالتحكم بالعالم في متناول المعسكر الغربي، ولم يعد يعيقهم سوى قيم الخير والصلاح والعدالة، أي تلك التي تتحقق بالتقوى وإقامة الدين، لذا استخدمت العلمانية من جديد في استهداف الإسلام.
من هنا نفهم لماذا كان شرط قبول الحاكم لديار المسلمين أن يكون علمانيا، ويعمل على استبدالها بالإسلام، ولما كانت تركيا هي القطر الإسلامي الأكبر والأهم، لأنه وارث الدولة الإسلامية، لذلك نصّبوا عليه بعد احتلاله، أحد رجالاتهم الذي أعدته بريطانيا جيدا، “مصطفى كمال”، ودخل بداية بعباءة إسلامية مؤملا الشعب بأنه سيستعيد أمجاد الدولة العثمانية، وخدع به الجميع عندما سمى نفسه الفاتح، فلم يكن وقتها وسائل إعلام محايدة، حتى أن “أحمد شوقي” نظم في مدحه قصيدة مطلعها: يا خالدَ التُركِ جدّد خالدَ العَرَبِ …الله أكبرُ كم في الفتح من عَجَب.
وهكذا لو كان أتاتورك منتميا حقيقة الى الأمة لاعتبر عمله اكبر خيانة لبلده، قام بها تحت خديعة بناء تركيا أوروبية، فكل إجراءاته تكفلت بقطع تركيا عن تاريخها المجيد، والذي هو مقيت بالنسبة للأوروبيين بسبب القضاء على التفوق البيزنطي الروماني، إذ احتلت الدولة العثمانية صدارة العالم في كافة الميادين لخمسة قرون.
لذلك فالغرب يمجدونه، وظلوا يحافظون على بقاء إرثه، مؤملين أتباع طريقته بقبول تركيا في النادي الأوروبي خداعا، لإبقاء سيطرة العلمانيين على أهم مفاصل الدولة: المؤسسة العسكرية والقضاء والتعليم.
ظل الأتراك المخلصون لبلدهم يحاولون استعادة تراثهم وتاريخهم، من غير جدوى، وفي أول محاولة نجحت بقيادة “عدنان مندريس” لم يقدروا على إزاحته إلا بالإنقلاب العسكري، وفي المحاولة الثانية بقيادة “أربكان” تمكنوا من إفشاله بحكم قضائي، لكن بعد أن تعلموا من الدروس القاسية نجحوا في عام 2003 عن طريق الإنتخابات، وحاول عملاء الغرب في تركيا وبتمويل من عملائهم من العرب الذين مولوا انقلاب السيسي، الانقلاب عام 2016، وفشل بسبب وقوف الشعب مع قادته الإسلاميين.
لذلك لا ندهش الآن ونحن نرى العربان من أتباع مدرسة أتاتورك في انتهاج العلمانية تبعية للغرب وعداء لماضي الأمة الإسلامي المجيد، لا ندهش عندما نراهم يصطفون في الزفة الإعلامية الغربية ضد استعادة أردوغان للمسجد.
دائما هنالك في النهاية فسطاطان لا ثالث لهما، والإنتماء لأيهما يكشف خبيئة المرء مهما أخفاها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى