أمة تنسحب من التاريخ / وليد معابرة

أمة تنسحب من التاريخ..

كنتُ “الممعوط” الوحيد بين شخصين أصمّين (أطرَمَين) لا يسمعان شيئا مما يدور في فلك الحوار، التقيا على حافّة طريق جانبي مؤدٍ إلى نهاية قريتنا، وقد كانا يرتديان ملابس الصيد…، يتجنّد كل منهما ببندقية يحملها على كتفه، وبيد كل واحد منهما كيساً فارغاً ينتظر الحصاد المزعوم، وميكيالاً قديماً ذا عيارات معدنيّة في يده الأخرى، كان أحدهما ذا هيبة عشائريّة، والآخر صاحب نفوذ سياسيّ، فلعلهما يريدان ملء كيسهما بمنتوجٍ منتظرٍ يكيله صاحبه بمكياله الخاص، فأخذ أحدهما يشير إلى صاحبه بيده صائحاً بصوت عالٍ:

أراك تحمل بندقيتك…، إلى أين أنت ذاهب؟

فأجابه: إنني ذاهب إلى الصيد…

ولكن السائل لم يسمع الجواب، فقال بصوت أعلى: والله ظننتك ذاهب إلى الصيد!

فرد عليه الآخر: لا والله إنني ذاهب إلي الصيد!

فصاح الأول من جديد: إذن متى ستذهب إلى الصيد؟

فأجابه صاحبه: إنني ذاهب إلى الصيد!

فرجع الأول قائلاً: الحمد لله أنك لا تريد أن تذهب إلى الصيد وإنني سأذهب لجني المنتوج وحدي.

فرد عليه الثاني: لا والله إنني ذاهبٌ إلى الصيد…

هكذا اكتمل الحوار بينهما وأنا متسمٌّرٌ في مكاني، لم أفهم شيئاً سوى أن كلاهمها سيذهبان إلى الجانب الآخر من القرية؛ ليمارسان رغباتهما في تحقيق الهوايات الآيديولوجيّة الخاصة بكل واحد منهما، وقد أدركتُ أن كلاهما لا يريد أن يمنح الآخر مجالاً لإيضاح فكرة الذهاب إلى الغابة المجاورة وإكمال مسيرة الصيد بنجاح، وقد انتابني –لحظتها- شعورٌ يقودني إلى أن أشبّه أحدهما بمسدس الصوت الذي يتعرض إلى حالة الإغماء بعد إطلاق ثلاث طلقات ناريّة ليصل إلى حالة يطلقون عليها اسم أن المسدس (بِردِف)…، وأن الآخر يشبه الماكنة الكهربائيّة التي لا تعمل إلا بعد إدخال العملة المعدنيّة في المكان المخصص لها؛ وعندما تنتهي مفعول (العشرة قروش) يصبح طلبك مستهلكاً وليس باستطاعتك الحصول على مزيد من مبتغاك.

إنّ الحوار القائم يذكرني بالحوارات القومية التي نشاهدها على محطات التلفزة ونسمعها ضمن البرامج الإذاعيّة، حيث تقوم أداواتها على إطلاق الشتائم والألفاظ النابية، وممارسة الجديّة في الأمور التافهة، وتحوير قضايا المجتمع العامة إلى قضايا هامشيّة شعارها: “الاختلاف في الرأي يفسد للود كل قضيّة”، فضلاً عن ممارسة الأخلاقيات غير المهنيّة والاستفزازات الموجهة بشكل مباشر أو غير مباشر بتسليط الضوء على أخطاء الآخر وتوجيه أصابع الاتهام ليؤدي كل من المتحاورين رسالته الفكريّة المعنونة بنشر الاعتقاد ومحاولة غرسه في نفوس المشاهدين أو السامعين، متجاوزين المعايير العلميّة والأدبيّة والتغافل الواضح لأبجديات الحوار البنّاء الذي يسهم في صناعة المدنيّة واستيراد قيم الحضارات الراقية التي تغنّى بها التاريخ الأصيل وأغنى بها المجتمعات ضمن أمجاد هذه الأمة.

خلاصة القول: إنّ الحوارات الراقية -بمختلف أشكالها- جزء ينتشلُ العقلَ وينقيه من شوائب الوعي المزيّف وبراثن الأميّة وتجاوز تقديس الجهل، وإنّه قد بات هناك مستوى آخر يجب علينا الوصول إليه حتى نصل إلى إثراء المستقبل بتجارب رائدة تنقذ الأمة وتسير بها نحو الارتقاء وتجاوز التحديات المعاصرة، فالأمة التي تتغافل عن إيجاد حلول أكاديميّة وتربويّة هدفها الإصلاح وتأنسن البشر؛ هي أمة تُخيطُ أكفانها للمغادرة الإجباريّة والانسحاب من التاريخ.

#الكاتب_وليد_معابرة

#الكاتب_الساخر_وليد_معابرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى