خفايا الإطاحة بمدير المخابرات في الأردن: السر في عبارة الملك حول «خلل في المنظومة الأمنية» والتوقيت ارتبط بالقمة والملف «المغربي»
أمراض النخبة تظهر بسرعة… «تسحيج» يضر بالجنرال الجديد و«تجريح» بلا فروسية ضد القديم.. و«روايات» غير صحيحة بالجملة في السوق
كتب . بسام البدارين
لا أحد على الإطلاق في الحالة الداخلية الأردنية التي تجنح بين الحين والآخر للغرابة الشديدة يمكنه فهم تلك الأسرار التي تدفع لبروز ظاهرة التجريح والنقد بعد ساعات قليلة من استقالة مدير المخابرات العامة رجل المستوى الأمني القوي الجنرال فيصل الشوبكي.
خلال ساعات فقط لم تكن مظاهر الترحيب بقرار القصر الملكي تغيير مدير الجهاز الأمني الأهم في البلاد ومباشرة بعد القمة العربية متسقة مع «الفروسية» كما يلاحظ الناشط النقابي الإسلامي الشرس ميسرة ملص الذي انتقد أداء الجنرال المقال مرات عدة وهو في الإدارة واعلن رفضه المشاركة في حفلة «النميمة» الجديدة.
للشوبكي الذي سيطر على الإيقاع لنحو خمس سنوات وبحكم عمله خصومات وبسبب طريقته في العمل ثمة متضررون ومنتقدون ومادحون والرجل في النهاية اجتهد وعمل فأخطأ وأصاب ولا يمكن القول بأن اي منصب في الجهاز الأمني بالعادة يمكن ان يحظى بأصدقاء حقيقيين.
المتنطحون بسرعة للاجتهاد في تبرير إحالة الشوبكي على التقاعد خصوصًا داخل الطبقة الحاكمة كانوا في الماضي القريب بالصدارة في تمجيد الرجل وتبرير الأخطاء لا بل في التسحيج له والاسترسال في تعداد مهاراته وأفضاله على النظام والدولة والشعب.
تلك قيمة ثقافية سلوكية مألوفة في النخبة والصالونات الأردنية ازدهرت فقط لأن موقع مدير المخابرات اشتبك أكثر مع التفاصيل السياسية والعلنية مؤخراً خلافاً لما كان يحصل في الماضي حيث لم يكن الرأي العام يعرف صورة الرجل ولا هويته قبل ان يحول سياسيون وإعلاميون محترفون بالنفاق هذا الموقع الوظيفي المهم إلى «تجارة» تخصهم.
في المقابل برزت بالتوازي ظاهرة الاستعجال في التصفيق الضار للمدير الجديد اللواء عدنان الجندي الذي بقي دوماً في الظل كواحد من أكفأ ضباط المخابرات وأكثرهم مهنية والذي ابعده الشوبكي اصلاً قبل اشهر قليلة وأحاله على التقاعد.
عندما يسأل رئيس الوزراء الدكتور هاني الملقي عن بعض التفاصيل يؤشر فوراً على ضرورة البحث في الموضوع مع «الباشا» وهي مفردة يصرفها الأردنيون للعشرات لكنها عندما تصرف رسمياً يكون المقصود فيها مدير جهاز المخابرات.
وعندما يغضب رئيس مجلس النواب عاطف طراونة يتحدث عن تعامله مع «حكومات عدة»، حتى كبارالموظفين والمستشارين في القصر الملكي درجوا على إدخال المستوى الأمني في تفاصيل ليست أمنية إطلاقاً لتغطية اعمالهم وأحياناً اخطائهم.
هنا تكمن الإشكالية التي تؤسس للمدير ظهوراً علنياً وسياسياً دائماً قد يختلف مع معايير الموقع والواجب الوظيفي كما يقدر رئيس سابق مخضرم للوزراء يتحدث لـ «القدس العربي» ويشير إلى ان قواعد علمي الرياضيات والفيزياء تقول بان المبالغة في الظهور السياسي والإعلامي لرموز المؤسسة الأمنية يعني التعرض وفورًا لما يتعرض له المدنيون حيث الحسابات والشللية وأحياناً الجهوية والمجموعات المنافقة وتنامي الشعور بـ «العظمة» وتوسيع إطار الصلاحيات بشكل يقلق ويزعج رموز كل بقية المؤسسات المشتركة في إدارة الدولة.
وهو المنطق الذي يؤشر عليه وبقوة الملك عبدالله الثاني شخصياً وهو «يكلف» الجنرال الجندي برسالة مكتوبة بالسهر على «التنسيق مع المنظومة الأمنية واستعادة ثقة المواطن الأردني بالجهاز».
لأن الرسالة نفسها سبق ان وجهت للجنرال الشوبكي شخصياً في الماضي يمكن الاستنتاج بأن الشوبكي تساهل في المهمة الأساسية التي أمر بها الملك أو لم ينفذها كما ينبغي بالتقدير الملكي، الأمر الذي استوجب التغيير وتكليف جنرال جديد محترف ومهني وتأطيره برسالة مكتوبة تتحدث اولاً عن «بقاء الخلل نفسه»، وثانياً عن أولوية مواجهته.
كانت مناسبة حديث الملك مرات عدة عن «خلل في المنظومة الأمنية» منطلقة اصلاً من أحداث لا يمكن إنكار الإخفاق الأمني فيها مثل حادثتي البقعة والركبان وخلية الإرهاب في قلعة الكرك.
عليه يمكن الاستنتاج بأن الإقرار باستمرار وجود الخلل الأمني خصوصاً بعدما أشرفت أجهزة أخرى بإبداع على «تأمين» قمة البحر الميت وبكفاءة كبيرة قد يكون أول خيط في تبرير الإطاحة بالجنرال الشوبكي والإستعانة بالجنرال الجندي الذي يحظى مع عائلته طوال الوقت بسمعة طيبة جداً.
دون ذلك تبقى الروايات المتعددة في السوق مجرد تكهنات بما فيها تلك التي تتحدث عن إخفاق الشوبكي في مسألة حضور الملك محمد السادس للقمة أو التسريبات الإلكترونية التي بدأت تروج من مصادر مجهولة تحت عنوان الإساءة للشوبكي او تحميله مسؤولية التعثر في مجالات عدة .
غير منطقي القول بأن قرار تغيير في منصب حيوي وأساسي من هذا الحجم يمكن ان يكون بمحض أي «صدفة» بقدر ما هو قرار تراكمي خصوصاً وان مؤسسة القصر «تنوع» منذ أسابيع في تجديد جنرالات المواقع الأمنية العليا.
سياسياً وأمنياً لا يمكن إنكار نجاح الشوبكي قبل رحيله بمعالجة أزمات عدة بكفاءة من بينها احتواء الحراك الشعبي والتصدي للعنف والتطرف مرات عدة واستعادة ولو قدر من «هيبة» المؤسسة الأمنية وإن كان خارج السياق الديمقراطي للخطاب الملكي طوال الوقت.
وسياسياً وأمنياً مهمة الجنرال الجديد لا يمكنها ان تكون سهلة وتؤشر على بعض الدلالات الاجتماعية والإقليمية وقد يكون من بينها مواجهة الشللية والجهوية التي تتراكم داخل المؤسسات الأمنية واستعادة مصداقية الشعب بالتوازي مع استعادة «الدور الخارجي» الذي كان مزدهراً في الماضي للمؤسسة الأمنية الأردنية والعمل ايضاً على الملفين السوري والعراقي باحتراف.
ثقة الناس في جهاز أمني عتيق ومخضرم مثل المخابرات لا يمكن التساهل فيها خصوصاً في مرحلة صعبة يهتم فيها المواطن بالأمن قبل الخبز. وفي الجهاز الأمني ثمة عشرات من الوطنيين المهنيين القادرين على الإنجاز والتصرف بمسؤولية، أحدهم الجنرال الجندي وآخرون أحيلوا بلا عدالة على التقاعد أو يتحينون الفرصة للأداء المهني والخدمة بصمت.
المحصلة من كل الجدل المثار حول القصة تقول أن الخلل في المنظومة وعليه لا تكفي المعالجة بتغيير الأفراد وتستطيع «القدس العربي» ان تؤكد بثقة أن هذا حصريًا ما يفكر فيه العاهل الأردني.
وعليه «التسحيج» للجنرال الجديد يسيء إليه ولا يخدم الدولة وردود الفعل المضادة لسلفه الشوبكي بعيداً عن «الفروسية» لا يمكنها ان تخدم النظام.
القدس العربي