سعيد ذياب سليم
يوم عادي آخر كانت ليلة ثقيلة الظل، شعرت فيها أنني أحمل صخرة على صدري. صحوت قلقاً مرتبكاً أنظر في زاوية الغرفة كنت أخاطب طيفاً. أتنفس سريعاً بيأس من أوشك على الغرق، ودقات قلبي عنيفة.
أرتجف وقد بللني عرق بارد. أكان الموت طيفاً أم زائراً؟ نهضت من فراشي متردداً قلقاً، أتلفت حولي وأعاود النظر إلى زاوية الغرفة. سرت بخطوات قصيرة خائفة، أريد ماء أبل به حلقي الجاف. ماء… ماء… شربت ماءً، ثم أضأت الصالة وجلست محاولاً ضبط تنفسي. سحبت نفساً عميقاً مردداً آيات أحفظها، محاولاً استعادة الهدوء.
يوم صيفي عادي، هكذا تقول الصحف. انتظرت الفجر، قرأت الوِرْد اليومي وصنعت قهوتي كأي شخص عادي، قهوتي المُرَّة العادية بوجهها الأسود الكئيب.
فتحت نافذتي أختلس النظر إلى صفحات الأصدقاء في العالم الأزرق، رأيت منشورات حذرة، البعض فيها يتلو قرءانا والبعض شعرا أو قولا مأثورا لكنها منشورات عادية حائرة يشوبها الغموض.
ماذا يحدث؟ لماذا هذا الوجوم؟ انتقلت إلى تطبيق الراديو لأستمع إلى الأخبار، لتنهال عليَّ الأخبار العاجلة منها والعادية! هل أقول صُدمت؟ دُهشت؟ بكيت؟ لكنه يوم صيفي عادي، درجة الحرارة تتفق مع معدلاتها في مثل هذا الشهر من السنة! والقتل؟ والغدر؟ وفاشية الكيان الصهيوني، هل صارت أخباراً عادية؟ أم ما زالت هي هي أحزاننا اليومية؟ تنفَّسَت الحياة، تثاءبت بكسل، صدحت لها الطيور، مَاءَت القطة عند الباب، نعق غراب فوق برج الحمام، انتشرت في الجو رائحة حطب مشتعل، ودارت الأفلاك دورتها المعتادة.
سمعت ضجيج مركبة نقل النفايات الكبيرة تفرغ الحاوية التي في الشارع، مرت في وقتها المعتاد من كل صباح ثم سارت إلى الشارع المجاور في طريقها المعتاد. تعالت أصوات المركبات والمارة في الشارع ينسجون حكاياتهم المعتادة.
هل إذا زاد عدد الشهداء في القطاع عن أربعين ألفاً، واحداً أو اثنين أو ثلاثة، سيكون حدثاً فوق العادة؟ وهل تختلف منزلة الرضيع عن أمه إذا ارتقيا، والطفل عن الرجل، والقائد عن أي رجل آخر؟ هل سيختلف حجم الفرحة، أم كمية الألم الذي يُغرق القلب؟ أن يوصي شهيد: “اجمعوا أشلائي، أريد عيني الاثنتين وأصابعي العشرين.
لا تتركوا شيئاً منها، وادفنوني في قبر عادي، لا أريد أن تدفنوني في رصيف أو ساحة مدرسة أو مستشفى.” أليس هذا ترفاً عادياً؟ وأن ترتقي الأم وهي تحتضن رضيعها، ويحملهما جناح ملاك، أليس هذا مشهداً عادياً؟ هل اختلفت أيامنا منذ أن وُلد الكيان “الخرافة”؟ ألم يزل الغدر والعدوان ديدنه؟ أما الأمر غير العادي، فما زالت النساء في الخيام وتحت أزيز الطائرات يلدن الأمل والفرحة، ويقدمن جيلاً فتياً من المقاتلين والأمهات.
يوزعن حلوى الشهيد وحلوى الوليد، ويورثن الفكرة فوق الأرض وتحت السماء، تأخذها الريح كالبشارة أن أيام “الخرافة” معدودة. تنتقل الشعلة من يد ليد ولن تنطفئ. رحم الله أبا الشهداء، رحم الله الشهداء جميعاً، فإنما هو بعض خيارات النصر، ولا نامت أعين الجبناء.