هل يحتاج الأردن مدينة جديدة… أم إلى إنعاش مدنه المنهكة؟

هل يحتاج #الأردن #مدينة_جديدة… أم إلى #إنعاش مدنه المنهكة؟

بقلم: المهندس محمود “محمد خير” عبيد

مع الإعلان عن وضع حجر الأساس لمدينة عمرة الجديدة، يعود إلى الواجهة سؤال تنموي وطني ملح، وهو ما إذا كان الأردن بحاجة إلى مدينة جديدة، أم يحتاج أولاً إلى إحياء المدن والمحافظات التي تعاني منذ عقود من ضعف الخدمات وتراجع البنية التحتية وهجرة أهلها نحو العاصمة. والسؤال هنا ليس عمرانياً فقط، بل هو سؤال هوية وتنمية وعدالة اجتماعية.

عمان، المدينة التي اختارها جلالة الملك عبدالله الأول لتكون عاصمة لأمارة شرق الأردن ومن ثم عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، كانت في البداية مدينة صغيرة محدودة السكان، تشكلت غالبية مجتمعها الأول من بعض أبناء العشاءر و الشركس والشيشان والدمشقيين، لكنها نمت مع الزمن ليس فقط بأبنائها الأصليين بل بآلاف الأسر القادمة من القرى والمحافظات بحثاً عن فرص حياة أفضل وخدمات متوفرة. اليوم تشير الأرقام إلى أن عدد سكان المملكة يقدّر بنحو 11.5 مليون نسمة، وأن ما يقارب 42٪ من سكان الأردن يعيشون في العاصمة عمان، أي نحو 4.8 مليون نسمة، وغالبية هذا التركز السكاني ناتج عن هجرة داخلية طويلة الأمد من المحافظات التي تراجعت فيها الخدمات وفرص العمل، وليس نتيجة للهجرات الخارجية كما يحاول البعض تصوير الأمر لإيجاد شماعة يعلقون عليها إخفاقاتهم.

وإذا ما تأملنا مسار الهجرات التي شهدها الأردن خلال العقود الماضية، نجد بوضوح أن معظمها كان هجرات داخلية بين المحافظات، وليست هجرات خارجية. فلو أن الأردن استثمر الهجرات الخارجية التي مرّت به، خصوصاً موجات اللجوء أو العمالة الوافدة، بطريقة مدروسة ومنتشرة جغرافياً، لكان بالإمكان بناء بيئة استثمارية متوازنة تُنعش القرى والبلدات وتدفع أبناءها للبقاء فيها بدل الالتحاق بالعاصمة. وكان يمكن توزيع الإقامات والفرص بشكل يخلق مراكز عمرانية حقيقية خارج عمان، ويسهم في تنمية المدن الطرفية بدل تحويلها إلى محطات عبور نحو المركز. ولو حدث ذلك، لكانت كثير من القرى والمدن اليوم شعلة نشاط تنموي، ولما وجدنا أنفسنا نفكر في إنشاء مدينة جديدة بينما مدن قائمة ما تزال تنتظر التخطيط السليم والرؤية الواضحة.

الدراسات الميدانية تشير إلى أن النمو السكاني في مدن كبرى مثل إربد لم يكن طبيعياً فقط، بل اعتمد بدرجة واضحة على هجرة من الأرياف داخل الأردن. ومنذ تأسيس الدولة الأردنية تتكرر الظاهرة نفسها: القرى تتراجع، المدن الكبيرة تستقبل، وعمان تتحول إلى مركز لا يستطيع أن يحمل كل شيء. ومع كل مشروع مركزي جديد يزداد التفريغ الديموغرافي والاجتماعي للمحافظات بينما تتآكل البنى التحتية في المدن الريفية وتفقد قدرتها على خدمة أهلها.

كما أن غياب التخطيط بعيد المدى وغياب الرؤية الشمولية للتنمية جعلا الدولة تنفذ مشاريع كبرى لم تُبنَ على دراسات مستفيضة. أحد أبرز الأمثلة على ذلك مشروع “سكن كريم” الذي كلف خزينة الدولة ملايين الدنانير، ورغم مرور ما يقارب عقدين على إنتهاءه، ما تزال كثير من وحداته السكنية فارغة ان لم تكن جميعها في مناطق تفتقر لأبسط الخدمات. تحوّل المشروع إلى رمز للهدر والفساد المالي بدل أن يكون مشروعاً يسهم في تخفيف أزمة السكن أو تعزيز الاستقرار في المحافظات، وأصبح مثالاً على كيفية هدر المال العام لصالح بعض المنتفعين، في ظل غياب التخطيط السليم وتجاهل احتياجات السكان الفعلية.

وبالتالي، السؤال الذي يطرح نفسه هو هل نحن بصدد إنشاء مدينة جديدة أم نسخاً مكررة من الأزمة التاريخية نفسها؟ فإطلاق مدينة جديدة قد يبدو على الورق مشروعاً واعداً، لكنه عملياً قد يعني تعميق الهجرة الداخلية، فمدينة جديدة ستصبح مركزاً جديداً يجذب السكان بدلاً من إبقائهم في مدنهم وقراهم، وستُسحب القوى العاملة مجدداً من المحافظات تاركة القرى أكثر خواءً، وتتكرر أزمة عمان في مكان آخر.

إن إنشاء مدينة جديدة يعني أيضاً هدر الموارد على عمران جديد بينما القديم ينهار، في وقت الأردن ليس في وضع يسمح له بتجاوز مشكلاته الخدمية عبر القفز إلى مشروع عمراني جديد. فهناك ملفات مؤجلة منذ عقود، مثل مشروع مجمع الدوائر الحكومية الذي أُقر منذ الثمانينات ولم يُنفذ، وشبكة المواصلات الوطنية التي لم ترَ النور بعد، بينما العالم يعتمد على القطارات والنقل العام لربط المدن والقرى، بالإضافة إلى البنى التحتية المتهالكة في الطرق والمياه والصرف الصحي والمدارس والمستشفيات وغياب الاستثمارات الجاذبة في المحافظات، ما يدفع المواطنين إلى تركها والانتقال نحو العاصمة.

كما أن ما تقوم به الدولة عبر هذه المشاريع قد يساهم في تقويض النسيج الاجتماعي الأردني، فالروابط الاجتماعية التي تشكلت عبر عقود من القرابة والجيرة والعائلة والحارة تتعرض للضعف بفعل الهجرة الداخلية المستمرة، التي تخلق عزلة اجتماعية وتهدد هوية القرية وتفصل الناس عن جذورهم، وإن بناء مدينة جديدة دون معالجة هذا الخلل هو تعزيز لسياسات التفكيك لا البناء.

والحل ليس في إنشاء مدينة جديدة، بل في إعادة إحياء وطن كامل، عن طريق توجيه الجهد والموارد لتطوير المحافظات والمدن القائمة من خلال خطط تنموية حقيقية تشمل إنشاء شبكة مواصلات حديثة تقرب القرى من مراكز العمل، وتحسين الخدمات الحكومية وبناء مجمعات دوائر لخدمة المواطنين كما وُعِد منذ عقود، وتحفيز الاستثمار في المحافظات لتوفير فرص عمل حقيقية، وتشجيع أبناء القرى على العودة إلى أرضهم عبر توفير حياة كريمة لا تضطرهم للهجرة اليومية.

والسؤال الذي يظل مطروحاً منذ عقود هو: هل نحتاج إلى مدينة جديدة، أم إلى رؤية جديدة للتنمية؟ فمشكلتنا في الأردن لم تكن أبداً نقص المدن، لدينا مدن وقرى وأراضٍ واسعة، لكنها تعاني من تعطش للخدمات والفرص والتنمية العادلة. وبناء مدينة جديدة قبل معالجة جذور الخلل قد يكون إعادة إنتاج للأزمة نفسها التي عشناها منذ عقود، من هجرة أكبر، وضغط أكبر على الخدمات، وفراغ أكبر في المحافظات، وتركيز غير مستدام. فالأردن لا يحتاج إلى حجر أساس جديد… بل يحتاج إلى أساس جديد للتنمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى