هذا خلق الله
د. هاشم غرايبه
كان مسار بقعة الضوء المارة من شباك #المسجد تسقط على سجاد المسجد أمامي، فيبدو المسار المضئ مليئا بجزيئات #الهباب التي تسبح فيه، ففكرت في أن المرء يتملكه #الهلع عندما يعلم أنها ستدخل رئتيه، فيفكر في الإنتقال الى مكان آخر، لكن هيهات، فكل جو مليء بالهباء، سواء داخل المسجد أم في الشارع أم في بيوتنا، لكننا لا نراه الا إن انعكس عليه #ضوء وخلفية معتمة.
وقد يتساءل المرء: لماذا يحفر المنقبون عن الآثار عميقا للبحث عنها، وكلما كانت أقدم احتاجت الى الحفر أعمق؟.
لا يحس المرء بازدياد سماكة القشرة الأرضية في حياته، لكن توالي سقوط الغبار على سطحها على مر السنين هو ما طمر ما كان يبنيه البشر منذ آلاف السنين.
يشكل #الغبار على تفاهة أمره أمرا مقلقا لصحة البشر، ومكوناته رغم دقة حجمها هي مواد صلبة، مصادرها متنوعة، معظمها من التربة والنواتج الصناعية، وما يعلق في الجو منها هو ما كان قطرها بين 1 – 5 مايكرون، وما زاد عن عشرة يسقط على الأرض بفعل الجاذبية، وتقدر الولايات المتحدة أن كمية الغبار التي تترسب على سطحها سنويا هي 43 مليون طن، لكن المدهش ان بعضها من الرذاذ المتطاير من المحيطات الذي يخلف 200 مليون طن سنويا من الأملاح السابحة في الهواء بعد تبخر قطرات الماء الحاملة لها.
هنا ينشأ تساؤل: لماذا خُلق الغبار وما وجه النفع فيه طالما أن كل ما هو في الأرض لمصلحة الإنسان؟.
لا شيء وجد عبثا، لا بد أن هنالك كثيرا من الحِكَمِ من وجودها، ما نعلمه منها أنه ضروري لتلاقح النويات الحاملة للماء في الغيوم لأجل نزول الأمطار، كما هو مفيد لتلقيح الأزهار، إضافة الى أن الأملاح التى مصدرها تبخر قطرات ماء البحر تنتقل الى أماكن أخرى فتنزل مع الأمطار لتتوزع من جديد في التربة.
أغلب هذه الجسيمات لا تتحلل بسهولة كما أن من بينها مواد ضارة كالجراثيم والفيروسات والسموم، فكيف يتمكن الجسم من النجاة من ضررها؟.
قد لا تعلم أن هنالك مؤسسات تنظيف ذاتية، تعمل على تنظيف الأجهزة الحساسة في جسمك على مدار الساعة، لا تتقاضى منك أجرا ولا تنتظر شكرا، تعمل بلا تعطل ما دمت حيا.
فعند دخول الهواء بما يحتويه من هباء الى الأنف تبدأ التصفية الأولية من خلال الشعر فيه، تلي ذلك تصفية أدق داخل تجاويف الأنف الرطبة دائما، ثم تلتقط أهداب تغطي القصبة الهوائية وتفرعاتها ما بقي، وتتحرك بتموج الى الأعلى لتطرد ما أمسكته ليخرجه المرء بمخاط الأنف.
العينان لهما مسّاحتان مثل مسّاحة السيارة، هما الجفنان، يعملان لا إراديا وكلما دعت الحاجة، تفرز الغدة الدمعية أعلى العين سائلا قلويا يذيب المواد الصلبة، ويجعل سطح القرنية رطبا على الدوام، في طرف الجفن الأسفل من الناحية الأنسية فتحة صغيرة تصرف السائل الدمعي مع ما ذاب به من مواد غريبة، وتنقله الى الجزء الخلفي من تجويف الأنف، وهي أعادة تدوير لهذه المادة لاستخدامها بترطيب الأنف والبلعوم.
الهباء الدقيق المترسب على العين يذيبه الدمع ويمسحه الجفنان ليتجمع بينهما ليتسرب من خلال القناة الدمعية، إذا سقط جسم أكبر من 10 مايكرون، ترمش العين بشكك متواصل الى أن يذوب أو يدفعه الجفنان الى الوسط ثم الى الخارج.
قناة الأذن يدخلها الكثير أيضا، لكن الشعرات في القناة السمعية تلتقط الجسيمات الكبيرة وتحتجزها، فيما يطرد السائل الصمغي الصغيرة الى الخارج، وتنجمع مع الكبيرة المحتجزة لتحاط بالسائل ذاته بشكل كرة تدفع خارجا.
لكي تعرف قوة الطرد هذه يمكنك اجراء تجربة: املأ كأسا بالماء وانثر على سطحه بعض الرماد، ثم أدخل أحد عيدان تنظيف الأذن القطنية في أذنك لتمس شيئا من سائلها، قربه من الكأس، ستجد أن الرماد الطافي قد اندفع بسرعة هائلة الى الطرف البعيد.
وبعد، لا أعلم درجة الذكاء التي يتمتع به من يعتقد أن الرئة والعين والأذن قد طورت بذاتها ولذاتها هذا النظام الحمائي الفائق، لكني أعرف أن المرء متوسط الذكاء يستنتج أن ذلك تدبير غاية في الحكمة، ولم يتمكن علم البشر من فهم الآلية الدقيقة لعمله، ناهيك أن يضبطوا ثباته وانتظامه.
لا يمكن ذلك إلا لمن يملك أمر كل شيء.