نورعلى نور

نورعلى نور

د. هاشم غرايبه

المتمعن في #آيات #الذكر_الحكيم لا شك سيدهشه أن 1332 آية منه قد تناولت الآيات الكونية الدالة على وجود الله.
التساؤل الذي يفرض نفسه: لماذا خصص الله تعالى أكثر من سدس #القرآن لإقناع البشر بوجوده، مع أن آية واحدة كافية لإقناع العقل المحايد بذلك؟.
والسؤال الذي يتلوه: لماذا استنبط الإنسان وجود الجاذبية الأرضية من سقوط تفاحه، ثم بحث فوجد أن لها قانونا صارماً يحكمها، فيما لم يسأل نفسه السؤال الأهم: كيف أنبتت الشجرة التفاحة أصلا..هل يعقل أنها صدفة؟.
ولماذا لم يطلب أحد من البشر دليلا ماديا من الذين قالوا بوجود الثقب الأسود، رغم انه مجرد فرضية رياضية، ولم يمكن الى الآن تلمس أثر مادي لها، فيما لم تقنعهم الآلاف من الأدلة على وجود صانع قدير حكيم؟.
لا شك أن الله العليم الخبير يعلم أن المكذبين بالدين يكذبون على أنفسهم إذ يدّعون أنهم يحتكمون الى العقل، فيما هم مكابرون، لذلك أكثر من المحاججة العقلية المفحمة لهؤلاء.
الإجابة على السؤال الأكبر عن معنى الوجود كله يأتي في الآية الكريمة: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” [الذاريات:56].
العبادة ليست كما يتبادر الى الذهن أداء فروض ونوافل، فهذه من لوازم الإيمان ومتطلب للتعبير عن طاعة المخلوق للخالق.
لقد فسّر العلماء عبارة ” ليعبدون” بأنها تعني لكي يعرفونني، لأنه متى ما عرف المرء الله وآلاءه وأفضاله أحبه، ومتى ما أحبه حقا عبده، حيث أن أعلى درجات الحب هي العبادة.
لذلك كان العنصر الأول في العقيدة هو الإستدلال على الخالق بالعقل وليس بالحواس، ولهذا الهدف الجليل وهب الله الإنسان العقل، وهو ما ميز به البشر عن الدواب فهي لا يمكنها التعرف على الشيء إلا بالحواس أو بالفطرة، ومن هنا نفهم دلالة الربط في كلام الله بين الكفار والدواب، لأن عدم استعمالهم العقل فيما أوجب له، فكأنهم ألغوه، وبذلك أزالوا ما يميزهم عن الدواب، فكأنهم اختاروا أن يهبطوا الى منزلتها: “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ” [الأنفال:55]، وفي موضع آخر كان وصفهم: “إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً” [الفرقان:44].
إذاً فالمعرفة العقلية هي التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية والجمادات، والتي جميعها مخلوقات الله وتعبده تسبيحا لا نفقهه، لكن عبادتها ليست اختيارها بل هي فطرت على ذلك، لكن الإنسان بما وهبه الله عقلا يميز ويفهم، أعطي الخيار، ليختار الإيمان أو الكفر.
إن معرفة الله لا تتوقف عند معرفة معاني أسمائه الحسنى، التي تدلنا على أفعاله العظمى وصفاته المثلى، بل ترتقي بالتفكر في أسرار خلقه وخفايا حِكَمه حتى يصل المرء الى منزلة العارف، فإذا انعكس ذلك على سلوكه ارتقى الى مرحلة الواصل أي المتصل وجدانيا بالله، وهذه هي المنزلة العليا التي يصلها قليلون من البشر، لأنه إذ ذاك يرتقي بأحاسيسه ومشاعره فلا تعود للرغبات والنزوات المعروفة للبشر من سلطان لها عليه، أي يتحرر من قيود الذات ومناقص الجسد فيقترب من ملكوت المعرفة العليا ومنبع الحكمة الأعلى، حيث تصبح عندها الأمور مكشوفة له كأنها كتاب مفتوح.
تتميز العبادة التي تتـأتى عن المعرفة، بأنها تنعكس سلوكيا على المرء، فيصبح خلقه القرآن، وتصدر أفعاله موافقة لما ورد فيه، فتنتهي تلك الحالة من الإزدواجية التي نراها عند كثيرين من المسلمين الذين يؤدون فرض الصلاة لكن صلاتهم لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ويذكرون الله باللسان لكن قلبهم غافل، لأنهم لو تذكروا أن الله مطلع على أقوالهم وأفعالهم، لامتنعوا عن الغش وقول الزور والغيبة.
نستنتج أن العبادة المتأتية عن معرفة الله عقليا تسمو بالبشر، ولذلك كان هذا الإكثار من الآيات القرآنية الموصلة الى معرفة الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى