
د. #هاشم_غرايبة
كانت ثمة قطيع من الحيوانات البرية تعتزم قطع نهر الى الجهة الأخرى، كان التيار قويا فجرف كثيرا منها، لكن ذلك لم يوقف الآخرين، بل استمرت، فلم ينج منها الى الضفة الأخرى إلا قليل.
يدل ذلك على أن الحيوانات لا تتعظ بما يحدث مع غيرها، فلا تنتقل لديها خبرات الآخرين، بل تستند الى الغريزة وخبراتها الفردية.
التعلم وتطور الخبرات والمعارف هي واحدة من تلك الميزات الهامة التي تميز الإنسان عن الحيوان، فتتراكم من تجربته الشخصية، ومن تجارب الآخرين، ومما يكتسبه من طلب العلم عمن هم أعلم منه.
هكذا فالتعلم هو الحصول على خبرات الآخرين المتراكمة، وحيازتها في وقت ضئيل، من غير الحاجة الى تجريبها والتأكد من صحتها، لأنها نقلت عبر وسيلة صادقة.
هكذا فالعلم يكتسب بالنقل، ومن خلال وسيلتين: إما من مصدر العلم الموثوق في صحة علمه: “عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”، أو عن عالم منحه الله قدرات عقلية وحسن تدبير فتوصل لعلمه بالتجريب، ثم دوّن معارفه في كتب لتكون متاحة لمن يعرف القراءة: “الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ”.
لقد وجدت أن هذا التقديم ضروري لتحجيم ادعاءات من يعتقدون أن الدين والعلم نقيضان، بزعم أن الإيمان بالغيبيات يحجر على التفكير، وبالتالي يحول دون البحث العلمي والتقدم التقني.
لكن أكبر مقتل للمرء طالب العلم هو الغرور بما ناله من علم ضئيل أو ثقافة محدودة، فيكتفي به معتقدا أنه فاق أقرانه، وهو يكفيه ليتيه به فخراً، ويستغرق في أحلام الأمجاد.
من يعرف أن أصل العلم هو الله ، ومعرفة الله منتهاه، هو فقط من ينجو من هذه النقيصة، أما من يتعالى بما حازه ويظن أنه أو غيره قد بلغ منتهى العلم فهو غارق في الجهل، فكما قال أحد الذين كُرّموا على بحوثهم القيمة: “العلم محيط شاسع، ونحن من نُدعى علماء ما زلنا على شاطئه لم تبتل أقدامنا بعد بمياهه”.
هكذا فالعلم له أصل واحد وفروع، فأصله من الخالق، وفروعه ثلاث: العلم بالله، والعلم بخلق الله (الموجودات جميعا)، والعلم بأفعال الله (السنن الكونية).
الفرع الأول: هو معرفة الله، وليس ذلك كنهاً وتوصفاً، فذلك فوق قدرات العقل البشري، لأنه ليس كمثله شيء، والعقل البشري لا يمكنه التصور إلا بناء على المطابقة مع صورة معروفة لديه مسبقا، لكن هذه المعرفة هي فهم معنى وحدانية الله وألوهيته وربوبيته، وما يستوجبه ذلك من معرفة صفاته العلية (أسمائه الحسنى).
الثاني: التفكر في كل ما خلقه الله في الكون (السماوات والأرض)، والتي أعطانا الله مفاتيح المعلومات عنها في القرآن، وترك لنا المجال للتوسع في معرفتها ” يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا” [الرحمن:33].
الثالث: التفكر في أفعال الله التي هي سننه الكونية، وهي تلك القوانين الصارمة الدقيقة التي تسيّر كل ما في الكون بتناسق دقيق وعلاقات محكمة، والتي يسميها العلماء الجاهلون قوانين الطبيعة، وهم رغم ما تقدموا في اكتشافها ومعرفة نظامها، إلا أنهم بمعيار المنطق العلمي جاهلون، لأنه ليس بعالم من يكتشف تلك القوانين المحكمة ثم يفسرها أنها جميعها صدف، فالعالم الحقيقي عندما يلاحظ الدقة الفائقة فيها، وهيمنتها المطلقة وعدم القدرة على وقفها أو حتى تعديلها، لا يمكن أنها يعتقد أنه ليس هنالك وراءها من قوة ضابطة مهيمنة.
هكذا نفهم أن العلم أوجده الله ولم يخترعه البشر، ولو لم يشأ لهم أن يعلموا ويتعلموا لتركهم كتلك البهائم التي جرفها النهر، لا تنتقل معارفهم وخبراتهم لغيرهم، بل جعل الدافع للبحث والتعلم هو أساس فطرة العقل البشري، لذلك نجد الطفل يبدأ بالبحث في كل ما حوله فور أن يتمكن من الحركة، ويبدأ بالسؤال ما هذا وكيف ولماذا منذ أن يتعلم النطق والكلام.
العلم هو المحرك الأساسي في الحياة، والدين هو المنظم للحياة البشرية.
كلاهما من الله ووهبهما للبشر لأن فيهما مصلحة خالصة لهم.
لذلك جاهل من يظن أنهما متعارضان.

