موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

في حفل زواج أحد الأقارب، كنا نتحلق كل مجموعة حول طاولة، جاء شاب ليجلس معنا، ومنذ البداية ظل مشغلا نفسه بحديث مع شابين يعرفهما من بيننا، اعتقدت أن ذلك التشاغل ليتجاوز السلام على الحاضرين، قلت لنفسي لا بد أنه من أولئك الخجولين، وأراد أن يكفي نفسه مؤونة السلام على الكبار والذي سيجر عليه التعريف على اسمه من ثلاثة مقاطع على الأقل.
طوال الوقت الذي قضاه معنا ظل ميمما وجهه تجاه الشابين، ولم يشارك بأي حديث نتداوله نحن الذين نكبره بأكثر من ثلاثين عاما، بعد ذهابه سألت مجاوري عنه، فقال إنه ابن قريبنا فلان، فأبديت استغرابي أنه لم يعرفني.
فتبسم قائلا: وكيف لا يعرفك!؟، بل يعرفك لكنه يتخذ منك موقفاً معاديا.
قلت: كيف ذلك وأنا لا أعرفه ولم أخالطه ولم أتحدث معه يوما.
فرد قائلا: كراهيته لك بسبب ما تكتبه على الفيسبوك!.
لم تصدمني هذه المعلومة، فكثير من الناس يخلطون بين الشخص والموقف، وقد علمتني الحياة أن الناس معادن، منهم معادن نبيلة، تبقى محافظة على جمالها وبريقها ولو خلطتها بالطين، كما تظل بكامل مواصفاتها لا تتأثر بالعوامل الجوية ومتغيرات البيئة، ومنها المعادن المتوسطة الجودة، فتحتاج الى ظروف محددة لكي تحتفظ بخواصها، وهنالك معادن رديئة تصدأ وتتحلل وتفقد قيمتها حتى في الظروف العادية.
ينسحب هذه التصنيف على نفوس الناس، فالنفوس الكبيرة تناقش الأفكار، والنفوس الصغيرة تناقش الأمور المادية ، وأما النفوس الهزيلة فتناقش الأشخاص.
هكذا وجدت النفوس أصلا، ولحكمة أرادها الخالق لكي يعمر الكون من خلال الحوارات بين العقليات المختلفة، فلو خلقت النفس كلها كبارا لما تفاوتت مقامات الخلائق، فبالضد تظهر الأشياء.
على أن الأمر ليس قدرا مكتوبا أن يكون المرء صغيرا أوكبيرا، فذلك استحقاق لقدرات وبناء على كلف، فالشجاع ما استحق هذه الصفة لولا صبره على المشاق وصموده أما عظائم الأمور، فيما انسحب كثيرون من حوله إيثارا للسلامة وإشفاقا من كلفة الصمود..فنالوا صفة الجبان عن استحقاق وليس وصما بغير حق.
وكذلك باقي الصفات التي لا يستحقها الا القلة مثل الكرم والشهامة والنخوة ..الخ، لذلك كانت النفوس العظيمة قليلة، كالمعادن النفيسة، هي ثمينة لقلة وجودها، والمعادن الرديئة رخيصة لتوفرها بكثرة.
ما وقع فيه أمثال هذا الشاب، تصورهم أن الدين فكر سلفي بائد تجاوزه الزمن، وأن الدعوة لدين الله دروشة واستغراق في الأساطير، لذا يعتقد هؤلاء الضالون بأن معاداة منهج الله هو سعي للتقدم والإرتقاء، وطريق الفلاح والرشاد.
من الممكن تمييز هؤلاء الذين أضل الله أعمالهم من امتحان موقفهم تجاه المصلحين من أمثال سيد قطب ومحمد الغزالي والقرضاوي والشعراوي ..الخ، إذ يسارع الى اتهامهم بالإتجار بالدين أو العمالة للمستعمرين.
هذا هو نهج المنافقين القدامى ذاته لم يتغير منذ القدم، وإنما تغيرت مصطلحاتهم: “وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ” [محمد:30]، فكانوا يقولون : كاهن او ساحر أو مجنون، والآن يقولون: إسلاموي أو إخونج أو تكفيري.
وما زالت نهضة أمتنا – مثلما كانت في فجرها – موقوفة على قدرة المصلحين على تجاوز كيد المنافقين.
لذلك تتميز عصور انحطاط الأمة بغلبة المنافقين، وعلامة ازدهارها غلبة المصلحين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى