موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

أكثر ما ظل يؤرق البشر منذ القدم المرض بآلامه وبفقدان الحياة، لذلك ظهر في كل الشعوب الحكماء المطببون، وتبودلت الخبرات مما أدى الى تطور المعالجة.
ربما كان التقدم في الطب في آخر قرن أكثر ما أفاد الإنسانية من انجازات الغرب، لكنه مع أهميته لا يعوضها عما خسرته نتيجة لتقدمه في صنع أسلحة القتل والتدمير.
على الصعيد العام، هنالك ثقة مبالغ بها في قدرات الطب وإمكانياته، ونفور من أي حديث فيه تشكيك بما تحقق بهذا المجال، يعود ذلك ربما الى ميل الإنسان للإطمئنان لأنه يريح النفس، أكثر بكثير من ميله الى القلق المقبض، لذلك ترى من يشعر باعتلال في صحته، يستمع الى من يطمئنه على صحته، وأنه على ما يرام، ويصدقه بسرعة ولو كان من غير فحص أو تدقيق، أو قال به عن غير خبرة مقنعة، ويُعرض عن رأي من يدعوه الى الحذر والتأكد من الحالة.
لكن الناس لو عرفوا الطب والمداواة كما هما حقيقة لشعروا بالفزع، فالصورة الشائعة في الأذهان جميعا أنه متقدم كثيرا، لدرجة باتت قناعة الناس بأنه لو وصل إنسان مشارف على الموت الى المستشفى، فسوف ينجو حتما، ولا يحول دون تلك النتيجة إلا التأخر عن الوصول في الوقت المناسب، لذلك يتوقف القلق عند ذوي المسعَف حال ادخاله غرفة الطوارئ، ولا يشغلهم فقط إلا طول الوقت في انتظار الخبر السعيد بزوال حالة الخطر.
معظم الناس لا يعلمون ما يتم في غرفة العناية المشددة، ويظنون أن المعجزات الطبية تحدث فيها، وفي ذلك راحة لهم، لأن المهارة أو عدمها في الحقيقة متعلقة بأمرواحد فقط، سواء كانت هذه الغرفة في (مايو كلينيك) أو في مستشفى في البادية، وهو ضمان وصول الأكسجين الى الأجهزة الهامة وهي الدماغ والقلب، إما عن طريق استمرار عمل جهاز الدوران (الدورة الدموية)، بحث القلب على عدم التوقف عن النبض، أو بالتزويد المباشر بالأكسجين لتحميله للدم، الذي يوصله الى أهم جزء في الجسم وهو الدماغ، والذي لا يستطيع تحمل انقطاع الطاقة عنه أكثر من أربع دقائق، والطاقة يلزمها الأكسجين والسكر الأحادي (الجلوكوز).
كل الأطباء يعرفون أن هذه حدود لقدرات الطب لا يتخطاها، وبعدها ليس بيدهم غير انتظار رحمة الله سواء كانوا مؤمنين أم ملحدين، لأنهم يوقنون أن قرار إبقاء المريض حياً ليس بيدهم.
وكلهم يعلمون أن أهم ما حققه الطب كانت نتيجة اكتشافات وليست اختراعات، وهي ثلاثة:
في مجال المداواة كان اكتشاف البنسيللين بداية لسلسلة من العقاقير تفرعت منه سميت المضادات الحيوية، عملها ينحصر في الحد دون تكاثر الجراثيم، مما يدعم مقاومة الجسم التي تؤديها كريات الدم البيضاء، بمعنى أنها تساعد وتدعم المقاومة الذاتية ولا تحل محلها، بل وتصبح عديمة الجدوى إن فقدت.
كما كان اكتشاف الأسبيرين المستخرج من نبات الصفصاف، قفزة في تسكين الألم، وما زال وكل ما اشتق منه من مسكنات الملتجأ الوحيد من الآلام المبرحة.
الإكتشاف الهام الثاني كان في مجال الأمصال والمطاعيم، والتي كان لها دور هام في إنقاذ حياة الكثير من الأطفال.
الإكتشاف الثالث كان التخدير، وبفضله تحقق كل هذا التقدم الطبي، والمخدر يستخلص من نباتات معينة، التي لا شك أن الله أوجدها لكي تكون مصدر هذه المادة عندما يصل علم الإنسان الى فهم تشريح الجسم وأعضاءه وأنسجته، ولولا التخدير ما تقدمت الجراحة قيد أنملة.
كل التطورات في الأجهزة والمواد كانت تقنية، وهي مبنية على استخدامات للقوانين الفيزيائية وخصائص المواد (السنن الكونية) التي أوجدها الله منذ الخلق الأول.
وجميعها تندرج تحت نص الآية الكريمة: ” وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ”.
جميعها كانت موجودة في متناول البشر، واكتشفها عندما وصل به تطوره العقلي والمعرفي الى مرحلة قدرها الله في سابق علمه، هداه لها وسخرها لنفعه.
صحيح أن الأوروبيين هم من انفردوا بكل تلك الاكتشافات والتطويرات، لكن السبب ليس قدرات عقلية متفوقة على باقي البشر، بل لأنهم استعمروا الآخرين وامتصوا خيراتهم، فما تركوا ديارهم إلا يبابا، كما أن الشركات الرأسمالية الاحتكارية شجعت العلماء على الابتكار والتطوير بدافع التنافس بينها على الاستحواذ على الأسواق، وليس لخدمة الانسانية.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى