مناهج التعليم وأزمة القيم في المجتمعات / د. عمر مقدادي

مناهج التعليم وأزمة القيم في المجتمعات

تعد التربية أداة فعالة في ضمان تطوير البناء الإنساني المنشود والقاعدة الأساسية لتطور ورقي المجتمع وفق الفلسفة التي تضعها الدول والمؤسسات التعليمية والتي تخطط وتعمل لتحقيق التنمية الهادفة إلى تجسيد المناهج الدراسية وربطها بواقع مجتمعها بهدف الوصول بالمتعلمين إلى الإسهام في بناء مجتمعهم، وإذا كانت الأسرة هي الحاضنة الأولى للإسهام في تنشئة الفرد، فإن المدرسة في الواقع هي الفضاء التربوي والتعليمي الذي يمثل ساحة المتعلمين في تلقي المهارات والمعارف وترسيخ الأخلاق الحميدة التي تصون سلوك الفرد باعتبارها صمام الأمان في ضبط سلوكات الأفراد وبيان حدود علاقتها مع خالقها ومع الدولة وبين الأفراد فيما بينهم في المجتمع، وإذا حدث وظهر أن هناك اختلالات في مخرجات المنظومة التربوية، فالسبب يرجع أساسًا إلى ما قد يكون أصاب القيم المعتمدة فأفرز (أزمة القيم)، وهذا ما تعاني منه النظم التربوية في عالمنا العربي والإسلامي، حيث تنتشر هذه الأزمة بسرعة في جميع القارات بسبب سهولة المواصلات والاتصالات، فالمتمعن في أوضاع العالم كله يستنتج أنه لا غرابة في الأمر إذا تعلقت الأزمة الأخلاقية بالعالم غير الإسلامي، فالتربية عندهم وفلسفتها قد افتقدت جوهرها والقيم الأساسية، وما نتج عنها من سلوكات بارزة أقرتها المجتمعات الغربية بسبب استبعاد الدين المسيحي بوصفه مصدراً أساسيًا ترتكز عليه التربية الأخلاقية بدعوى أن التربية المسيحية غير عقلانية، وبدعوى المنفعة البرجماتية أو الجدوى الوظيفية لتلك الأخلاق، وهو ما يجعل العقل في الغرب المعاصر يبحث عن مصادر جديدة للالتزام الأخلاقي باعتبار أن المجتمعات لا يمكنها أن تعيش فراغًا أخلاقيًا، فالحياة بدون هذا الالتزام لا تستقيم.
نتيجة للبحث في دول الغرب عن بديل كمصدر للقيم، ظهرت بعض المدارس الفلسفية، ولكنها عجزت عن إيجاد البديل للقيم العصرية التي باتت تمثل العلاقات المادية للغرب، وهكذا تراجعت القيم الإنسانية درجات معتبرة وكبيرة، فقد تدخل علماء التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس وحاولوا البحث في أسباب الأزمة الأخلاقية فتوصلوا إلى أن المسؤولية في الأزمة الأخلاقية تتحملها التربية الحديثة التي ركزت اهتمامها على وسائل الحياة وأهملت الغايات والمقاصد واستهدفت المواطن المنتج أكثر من المواطن الصالح المصلح، وعندما اقتنع الغرب بأن يُعمل عقله في تحديد الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان الغربي وقع في مشكلة عدم اتفاقهم على تلك الأخلاق في تحقيق المنفعة، الأمر الذي جعل القيم الأخلاقية تختلف عندهم من بلد إلى بلد ومن مجتمع إلى آخر وجعل تصور طريقة تدريسها أمرًا ليس في متناول الجميع، وبناءً على ذلك فقد تكونت لذلك مؤسسات ولجان وطنية للبحث، ورصدت أموالًا هائلة لدراسة كل ما يتعلق بالتربية الأخلاقية سواءً من حيث المنهج، والمعلم، وطرق التدريس، والأنشطة ،والتقويم، وإذا كان المبرر الذي اعتمده الغرب في استبعاده المسيحية كمصدر من مصادر الالتزام الأخلاقي يسر له السقوط في أزمة القيم فإنه لا يجوز للمربين في العالم الإسلامي أن يقعوا في نفس الخطأ حتى ولو تم بوجه مغاير كاستبدالهم التربية الإسلامية والأخلاقية بأي مصطلح مغاير أو بديل كالتربية الوطنية أو التربية البيئية أو التربية الجمالية، وما أكثر تلك المصطلحات البراقة ونعتقد بأهمية التحذير من ذلك، لأن الأخلاق الإسلامية متضمنة ومهيمنة على مضامين كل هذه المصطلحات، فالأخلاق الإسلامية ليست علمًا نكرة؛ فقد تناولها العلماء بالدراسة عبر مختلف العصور وأبرزوا أصالتها وقدرتها المستمرة على صيانة المجتمعات التي تتصف بها، وقد بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك بشكل جلي فقال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهّودانه أو ينّصرانه أو يمّجسانه) ، فالإنسان مفطور على دين الله، وقيمه وحين نزل إلى الأرض واختلط بالبيئة فإنه اقترب أو ابتعد من هذه القيم بحسب المؤثرات، ولذلك نحن مدعوون إلى تجديد نظم التربية والتعليم وإرجاعها إلى القيم الفطرية: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ( سورة الروم، الآية 29)، فشرع الله له الوسائل والطرق لاكتساب المنفعة والقرب من القيم الربانية، وكون هذه القيم واقعية فالتحلي بها لا يضاد الفطرة، وهي تعكس خلاصة سريعة نزلت حسب الوقائع واستجابة مرضية لمشكلات الناس، فهي ليست قيمًا نظرية طوبائية أو وليدة فكر بشري يسعى لتكوين المدينة الفاضلة التي لا وجود للشر فيها، وبالتالي فواقعيتها تشمل أهدافها التي تعكس واقع وحاجات المجتمع.
بعد تحليل لعلاقات المنظومة التربوية بالقيم، تبين لنا وبشكل واضح أن كثرة الأزمات التي تتخبط فيها المنظومات التربوية في العالم كله هي أزمات ارتبطت بالقيم ولم يُحسن علاجها، مما جعلها تؤدي إلى نتائج سلبية وخيمة وتحدث شروخًا عميقة في كيان المجتمع الواحد، دفعت الدول إلى القيام ببعض الإصلاحات ووضع برامج وحلول تربوية ترقيعية، لم ترقَ إلى تغيير شيء بل جعلت وضع هذه المجتمعات والدول يزداد تأزما سنة بعد أخرى، وحيث إن الأمر متعلق بالمنظومة التربوية التي لا يشك أحد في أنها تشكل المحرك الأساسي والقاطرة الأمامية للتنمية المجتمعية الشاملة والمستدامة، فقد اقتنع المفكرون والمصلحون بضرورة مراجعة المؤسسات التعليمية لدورها في التعليم لتربية وتعليم جيل الغد وترسيخًا للقيم الحضارية للمجتمع باعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية تعمل على صيانة المجتمع بالحفاظ على ثقافته وقيمه الأصيلة، كما تعمل في الوقت نفسه على تطويره وتحديثه عن طريق استيعاب ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من رقي وتقدم في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن هناك فرقًا بين ممارسة النقد الذاتي بهدف إعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليم بالاستناد إلى منظومة القيم التي يحتاجها المجتمع وبين أن تتم هذه المعالجة تحت ضغوط سياسية أو اقتصادية تؤدي إلى المساس بالقيم، فينتج عنه قيم أسوأ وهذا غير مرغوب به، ومهما اختلفت النظريات في إبراز العلاقة التي تربط المنظومة التربوية بالمجتمع، فإن الأكيد في الأمر أن إصلاح المجتمع مرهون بإصلاح المنظومة التربوية، وأن نجاح هذه المنظومة في أداء مهامها يستلزم أن تتطابق القيم التي تبثها في الأجيال مع قيم المجتمع.
إن المطلوب في عملية الإصلاح ومن المصلحين في حقل التربية والتعليم أن تراعى القيم الحقيقية التي يرغب المجتمع في أن يتربى أبناؤه عليها، وأن يظهر ذلك من خلال المناهج ومحتوى التعلم والمصادر التعليمية في مراحل التعليم ومن خلال فلسفة التربية والتعليم، ويظهر أيضا من خلال تدريس معاني الأخلاق والقيم منهجيًا ونشاطات إثرائية أو مصادر تعليمية أو إضافية، وأن تدرج ضمن محتويات البرنامج العلمي المقرر، ولعل النصح يتطلب مني في هذا الوقت بالذات تقديم أحسن علاج لمنظومتنا التربوية الأردنية، وهو إبعادها عن أن تكون محطة تجارب لحلول مستوردة من الخارج وضعها أصحاب المصلحة من الدول والفئات للتعبير عن طموحات مجتمعاتهم وقيمها الخالية من القيم التي أرشدنا إليها ديننا الحنيف، وإذا كانت أزمة القيم عالمية وأن الغرب حاول مراجعتها بالبحوث والدراسات، فإنه لم يحقق المأمول لاعتماده على الروح العلمانية التي تؤمن فقط بالعقلانية والمنفعة ولإبعاده القيم الدينية، لكن هذه الأزمة في العالم الإسلامي نبعت من عدم الالتزام بالقيم الإسلامية الصحيحة بمصادرها الثابتة وهي: القرآن والسنة النبوية الشريفة والقدوة الصالحة في العصور الإسلامية، وهنا لابد أن نفرق بين وجود هذه القيم ضمن المناهج والبرامج التعليمية وبين الالتزام بها، فوجودها بدون التزام كعدم وجودها، وعليه فإنه من السهل وفي إطار المعالجة أن تصاغ مناهج للتربية الإسلامية والأخلاقية ذات محتوى عصري وتدرس بأساليب تعليمية ملائمة، فنحن في حاجة إلى إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم، وذلك عبر تخطيط وإجراءات تربوية هادئة وعميقة، تعتمد معاييرها من خلال ثلاث متطلبات رئيسة:
أولاً: – العمل على إعادة ترتيب منظومة القيم لدى الأجيال المكونة للمجتمعات القادمة في المجتمعات العربية والإسلامية على أسس أخلاقية فطرية لا اصطناعية، إنسانية لا محلية، عميقة لا سطحية، توظف كل وسائل العصر وتقنياته المادية والتربوية للنهوض وتنمية هذه المجتمعات ودولها.
ثانيًا: – العمل على تثبيت مبدأ النموذج والقدوة الصالحة، فحاجتنا اليوم أكثر إلى نماذج في السلوك يَحْتَذِي بها المتعلم في ظل الفضاء الإعلامي المفتوح ووسائل الإتصال، ولعل المعلم يستحق رتبة القدوة عندما يكون سلوكُه صورة لتطبيق مباشر ودائم لأفعال نموذج حي متصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل القيم التربوية والأخلاقية تنعكس إيجابيًا في سلوكه بفضل هذا “النموذج” ، ومتى تحقق في المربي هذا المعنى صار مقبولًا ومحبوبًا ومطلوبًا لدى المتعلمين.
ثالثًا: – العمل على ترسيخ مبدأ العلم النافع الذي يكسب الطلبة القيم والاتجاهات الإيجابية لتشكيل الإنسان الصالح في المجتمع ، فلا عمل صالحٌ بغير علم نافع.

نعتقد بأهمية تلك هي المتطلبات الثلاثة الضرورية لتحقيق أسس ومبادئ وعي تربوي جديد، من شأنه العمل على تغيير ما ترسب في وعينا الفردي والجمعي من خبرات ومعلومات منقطعة عن القيم الأخلاقية الفطرية والمعاني الدينية تحت تأثير النمط المعرفي الحديث، وهذا سيؤدي لا محالة إلى رأب الصدع في العلاقة بين المناهج التعليمية والقيم الأخلاقية.
والله ولي التوفيق

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى