من يوميَّاتِ #طالبٍ من #القدسِ في #الغربةِ (بريطانيا) :
“الأيَّامُ المُرَّةُ وكِسرةُ الخبزِ”.
#سناء_جبر
آهِ منكِ يا أوراقي العزيزة، ملاذي الذي به أحتمي وإليه ألتجئ؛ فكّرتُ كثيرًا وتردّدتُ، أنْ أنفثَ زفراتٍ حرّى وأطلقَ عبَراتٍ غصَّ بها القلبُ على أوراقِك البيضاءِ. ما الحلُّ وما السَّبيلُ إلى الانفراجِ؟ بعدَ نصفِ ساعةٍ، كانَ عليَّ أنْ أعودَ لعالَمِ الواقعِ وأَخرُجَ من تلكَ اللَّحظاتِ السَّعيدةِ التي انتظرتُها سنواتٍ طِوالٍ مَرَّتْ أربعٌ منها عجافٌ مِن كلِّ ما لَهُ علاقةٌ باليُسرِ والسَّعادةِ .
اليومَ، هو منتصفُ شهرِ آب لعامِ 2019م، وقد قضيتُ سحابةَ يومي فرحًا أشاركُ زملائي حفلاتِ التَخرُّجِ محتفلين بانقضاء خمسِ سنواتٍ متتاليةٍ من الدِّراسة في بريطانيا، حيث كنّا قد فزنا معًا بمنحةٍ دراسيَّةٍ بعد أن تقدّمنا لامتحانٍ تنافُسيٍّ تجاوزناه بصعوبةٍ بالغةٍ مررنا بعده بمقابلةٍ شخصيَّةٍ خِلنا أنَّها معركةٌ نفسيَّةٌ أشدُّ صعوبةً من الامتحانِ التّحريريِّ؛ ذلكَ أنَّ قرارَ اللّجنةِ وقتذاك سيحسمُ الأمرَ بانتقالِك إلى انعطافةٍ جديدةٍ في حياتِك، أو تبقى رهينَ أحلامٍ وطموحاتٍ وخيالاتٍ، فإنَّكَ إن لم تحصل على القَبولِ والموافقةِ لن تجدَ بحوزتِك المال الكافي لتكملَ مشوارَ تعليمِك…
كانت أيامًا قاسيةً باتَ التَّرقُّب والانتظارُ فيها عنوانًا لكل لحظةٍ تمرُّ عصيَّة بطيئةً جدًا؛ في كلِّ إشراقةِ صباحٍ، يُبادرني والداي بالسؤالِ عن النَّتيجةِ، ممَّا يزيدُ من صعوبةِ الأمر وثقلهِ على كاهلي، فلو كنتُ أعرفُ لأخبرتكم! لكن، تتعقّدُ الأمورُ ثم تنفرجُ بوصول بريدٍ إلكترونيٍّ يقضي يُعلنُ قَبولي وستَّةً من رفاقي، لكنّ الفرحَةَ كما اعتدنا في القدسِ لا تكتملُ، فالمنحةُ جزئيّةٌ لا تُغطِّي نسبةَ النِّصفِ، فَمِنْ أينَ لي بباقي التكاليف؟ هي سعادةٌ منقوصةٌ غصّتْ بها الحناجرُ وامتلأت العيون دمعًا بذلتُ جُهدي أن لا ينسابَ على وجنتيَّ لكن ما استطعتُ إلى ذلكَ سبيلًا.
غرقتُ في الفراغِ والتِّيه، أخذتُ أتساءل: أين أخطأت؟ وفيمَ زللت؟ أرِقتُ وغلّفني الهمُّ والضِّيق، لم أتجرأ لأطلبَ من والديَّ إتمامَ الأمر، فالوضعُ المادّيِّ تحتَ الأرضِ بدرجاتٍ عديدةٍ والجيبُ مثقوبُ ولا أرضَ لدينا ليفكِّر والدي في بيعِها، لَمعَت ببالي فكرةٌ أضاءت لي بارقةً من أملٍ شفيف: سأكتبُ رسالةَ استرحامٍ واستعطافٍ أشرحُ لهم فيها موهبتي وإنجازاتي وطموحي والمعوّقاتِ التي تمنعني حاليًّا من الالتحاق، وأسألهم أن ينظروا بعينِ الرأفةِ والرّحمة تُجاهَ طالبِ علمٍ تقفُ المادَّةُ عائقًا في طريقِ نجاحاتِه وتكبِّلُ يديه وأحلامَه وقدراتِه.
قلمي وأوراقي: لم أخبرْ أحدًا بالخطوةِ تلك، وأسررتُ مغامرتي خوفَ الفشلِ فتكونُ الخيبةُ مضاعفةً بعدَ أملٍ مُرتَقب. نفّذتُ ما عقدتُ عليه نيّتي تلك، يا الله ما أكرمَك وما أجزلَ عطاياك! تلقَّيتُ رسالةً تقضي بالموافقةِ وقَبولِ التّحدّي، وقد ساعدني في ذلك استنكافُ عددٍ من الطلبةِ المَقبولين أصلًا. تعجزُ الكلماتُ عن وصفِ تلك الفرحةِ الدّامعةِ بعينيّ والدتي وتكادُ أذناي لا تصَدِّقُ صراخَ إخواني وهم يحتفلون بي ويرفعونني عاليًا في الهواءِ، أمّا والدي فعجزتُ كلَّ العجزِ عن تفسير ضمَتِه تلك واحتضانَته لي بين ثنايا ضلوعِه، كان الأمرُ كمن يُفارق عزيزًا سيغيبُ دون أملٍ بلقائِه مُجدَّدًا، كانَ يريُدني أن أغرقَ داخلَه فلا يكونُ هناكَ فراقٌ.
أكتبُ الآن، بعدَ خمسِ سنواتٍ غادرنني كما لو كنَّ قرنًا، حضنُ والدي لم تُفارقني لحظةً، ولا أبالغُ في أنّني وددتُ أشمُّ رائحةَ التُّرابِ على قميصِه فيمدّني بقوَة مشتهاةٍ في سنواتِ غربةٍ لا ترحمُ، نعم أن أكون شابًا في مقتبلِ العمرِ لا يعني أبدًا أنني جاهزٌ للتّخلِّي أو حتَّى التَّعوُّد، فما زال في داخلي طفلٌ وإن كانت ملامحي تَشي برجلٍ بالغٍ خطَت لحيتُه وشواربُه، وكان هناك بعض خيوطِ إثرَ خوفةٍ مفاجئةٍ، حينَ صحوتُ بغتةً على صوتِ قصفٍ واجتياحٍ.
أخيرًا يا أوراقي الغاليةِ التي تشهدُ انكساراتي وبعضًا من انتصاراتي التي أعدُّها زائفةً مقارنةً بترابِ وطني أشمُّه وأتشرّبه فيتخلّلُ عروقي ويّمدُّني بالحياة والقوّة على الاستمرار والعمل، هي انتصاراتٌ زائفةٌ كلُّ ما يعزّيني فيها أنّني عائدق هناك إلى والديّ من جديد لأنام في حضنِها وتمسِّد على شعري، ويقبض والدي بقبضته على كفّي ويربِّت على كتفي أن امضِ قدمًا فوطنُك يحتاجُك وها أنت السَّندُ المُنتظَر. أخيرًا، في هذه اللّحظةِ، أعلنُ أنّني صعدتث درجاتِ السُّلَّمِ كما نويتُ، لكنّي صفرٌ خالي الوفاضِ أحتاجُ رصيدًا إضافيًّا من حنانٍ والديٍّ لأكمل بهِ المشوارَ.
مساءً، عُدتُ إلى السَكَنِ الجامعيِّ فوجدتُ زميلي منكفئًا على نفسِه، سمعتُهُ… كان يَشهَقُ كَمن يُداري نفسَهُ عنّي… متأَكِّدٌ أنا… مسحَ عينيهِ بكمِّ قميصِهِ والتفتَ إليَّ: أهلًا بالخرِّيجِ، ورمى ثقلَه عليَّ مُحتَضنًا، وفي تلكَ اللّحظةِ لم يتمالَكْ نفسَهُ؛ فقدِ استسلمَ للبكاءِ بينَ يديَّ، وكم بذلتُ من محاولاتِ التّماسكِ إلّا أنّ قواي خارت فانهمرَ الدّمعُ من عينيَّ شلّالًا وبصوتٍ متهدِّجٍ: يا صديقي، كيفَ لنا أن نفترِق بعدَ سنواتٍ طوالٍ قضيناها إخوانًا في دربٍ واحدٍ، نفرحُ معًا ونضحكُ معًا… كلٌّ منّا سيعودُ أدراجَهُ قافلًا إلى بلدتِهِ بعدَ أن أنهينا مُتطلَّباتِ التخرُّجِ، هي فرحةٌ منقوصةٌ؛ فلا نعرفُ كيف ستدورُ بنا دواليبُ الحياةِ وهل سيسمحُ لنا القدرُ مرةً أخرى بلقاءٍ أو جَلسةٍ مثلًا؟ غرقنا في الأسى…. صرنا نشهَقُ كأمهاتٍ ثكالًى… وفجأةً ودونَ مقدِّماتٍ، ألقينا تلكَ العَبَراتِ الحرّى المخنوقَةَ في الصُّدور، وأخذنا نضحكُ كالمجانينِ نتمنّى اللقاءَ والنَّجاحَ وتحقيقَ الآمالِ. وكانَ لا بد لنا من تناوُلِ الطَّعامِ فدعوتُهُ، التقطنا الصُّورَ وضحكنا وكلٌّ منَّا يُخفي حزنًا تائهًا في عقلِه وقلبِه؛ فلم نتوقَّع أن تركض بنا أربعُ سنواتٍ مهرولةً بهذه السرعةِ دونَ ان نشعرَ.
هي محطَّاتُ الدُّنيا، نركبُ محطَّةُ تُقلُّنا إلى أخرى وتُسلِّمنا إلى ثالثةٍ، وهكذا… ولا نتنبَّهُ إلى عندَ اللّحظاتِ الأخيرةِ حيث الوداعُ والغيابُ، وما عدا ذلك فإنَّنا ننشغلُ بآنيَّةِ اللحظةِ والموقفِ الذي يضطرُّنا إلى التّركيز عليه والعمل بمثابرةٍ وحرصٍ لنجتازَ اختباراتٍ كثيرةٍ نمرُّ بها ونعيشُها طوعًا أو كرهًا. ثم ما نلبثُ أن نكتشفَ وصولَنا نهاية الطريقِ لنبدأ محطَّةً تاليةً.
في اليومَ العشرين من نفسِ الشهرِ، ها نحُن الآنَ يا صديقي، تشابكت أيادينا مودِّعةً وكلُّنا أملٌ بلقاءٍ قريبٍ، كلانا سيبدأ رحلتَه الجديدةَ حيثُ أعدَّ العدَّةَ لخوضِ التجربةِ بثباتٍ وإصرارٍ وثقةٍ بالنَّفسِ ستكونُ عاليةً كما عهدتُكَ يَحوطُها إيمانٌ بمستقبلٍ مُشرقٍ حافلٍ بالإنجازِ كما عاهَدنا أهلَنا قبل أن نبدأ رحلتَنا، نَغُذُّ الخُطى نحوض القادم المجهولِ بقلبٍ رابضٍ وعزيمةٍ لا تَفترُ ولا تَلين، فَلْنمضِ باسمِ اللهِ، ولْتكن ذكرانا وصداقتُنا عهدًا بالفوزِ في الطَّريقِ الصَّعبِ.
أمامَنا أسبوعان ليُنهيَ طالبُ الغربةِ مسارَه ويعودَ سالمًا غانمًا لوطنِهِ، كيفَ ستمضي؟ لستُ أعرفُ يا أوراقي العزيزة؛ فالنقودُ نفدَت ولا نملكُ ثمنَ بطاقاتِ التنقلِ، أفتِشُ في جيوب الثيابِ وأقلِّبُ الصَّفحاتِ لعلَّني أحظى بواحدةٍ منسيَّةٍ هنا أوهناك، لكنْ عبثًا، محاولاتي باءت بالفشلِ… كيف سأتابعُ تصديقَ الشهادات؟ لن أطلُبَ من والدي مالًا إضافيًّا فوضعُه المادّيُّ سيّئٌ ولن أُكلِّفَهُ أكثرَ، عدا عن أنّني سأسبِّبُ له القلقَ… دارَت بعقلي الأسئلةُ حيرى لا تعرف طريقًا لإجابةٍ ممكنةٍ، حتى حطَّتْ بي رحالُها بوجوبِ العملِ بأيِّ شيءٍ أجدُه أمامي؛ لِأُؤمِّنَ متطلباتي الماليَّة وأعيشَ بكرامةٍ وإنسانيَّة، بحثت بينَ المحالِّ التجاريَّةِ عن وظيفةٍ، حتى وافقَ أحدُهم على ان أبيعَ لصالِحهِ الورودَ على الإشارةِ الضوئيةِ…
منذُ ساعاتِ الفجرِ الأولى، أنتصبُ واقفًا أمامَ التّاجرِ لينسِّقَ لي باقاتٍ من الجوريِّ الأحمرِ والقرنفلِ بألوانٍ منوَّعةٍ لأتنقلَ بها بين السّائقينَ والماريّن من هناك، منهم من يشتري واحدةً ومنهم من يُشيحُ ببصرِه متجاهلًا… لا أُخفيكمُ… أيّامٌ ثِقالٌ جثمَت على صدري، وكلُّ ما يُهدِّئُ من رَوعي هو ما أرسمُهُ في خيالي لغدٍ قادمٍ لا محالةَ سيأتي وإن بعُدَ للعودةِ إلى الوطنِ فأرمي بنفسي وهمومي وعذاباتي في حضنِ أمّي فلا يجلو الهمَّ سوى رؤيتِها واحتضانِها. مضتِ الليالي طويلةً كالأبدِ لا تنتهي “فما أطولَ اللّيلَ على من لم ينم”، ولا شيءَ يبعثُ على السّعادةِ ولا وقتَ للرّاحةِ؛ فأنا موزّعٌ مشتّتٌ بين بيعِ الورودِ وبين ضرورةِ ميليالي
تابعةِ كلِّ تلكَ المهامِّ خلالَ المدَّةِ المتبقِّيةِ.
اجتهدتُ في تحصيلِ المبلغِ الزهيدِ المطلوبِ لشراءِ الطَّوابعِ، وصدَّقتُ الأوراقَ، ولا أنسى ما أحاطني به رفاقي من دعمٍ مادّيٍّ ومساعدةٍ معنويَّةٍ لأكملَ طريقي وأنهيَ متطلّباتِ رحلتي.
ثلاثةُ أيامٍ باقياتٌ، وتنتهي رحلةُ الاغترابِ، وهأنذا أستعينُ عليها بحلمِ العودةِ والرّاحةِ المأمولةِ والمُشتهاةِ بالوظيفةِ، وأُحدِّثُ نفسي بأنَّ الأسى إلى انتهاءٍ وأنَّ التعبَ والجوعَ سينقضيانِ إلى غيرِ رجعةٍ، فتخصّصي نادرٌ ومن المؤكَّدِ أنَّني سأشغلُ وظيفةٌ مرموقةً، ولا ريبَ في ذلكَ فقد دفعتُ من عمري الثّمنَ العظيمَ وسهرتُ لأجلِ العلمِ والعلا لوطني في بلادِ الغربةِ.
واليومَ، في الثاني من أيلول، سيكونُ لقائي بعائلتي بعدَ انقطاعٍ دامَ خمسَ سنواتٍ توزَّعت بين عملٍ ودراسةٍ، وكم أهفو لتلكَ اللّحظةِ التي أرمي نفسي بها بين يديّ والدي ووالدتي، فيكونُ عناقًا طويلًا أعوِّضُ فيه ما فاتني من عناقاتٍ، يَمُدُّني بقوَّةٍ على المُضيِّ من جديدٍ. سأعودُ إليكِ قريبًا أيتها الأوراقُ، وسأحدِّثُك كثيرًا، أعدُكِ ستكونينَ رفيقي وسأخبركُ كيف كانَ اللِقاءُ المأمولُ، ولن يطولَ انتظارُكِ وترقُّبُكِ؛ فعودتي قريبةٌ، أعدُك.