
من “عنبر رقم 6” إلى واقعنا: #الإصلاح ليس ترفاً بل #ضرورة_وجودية
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
بين جدران مصحة نفسية معزولة في بلدة روسية نائية، نسج أنطون تشيخوف رائعته الخالدة عنبر رقم 6، التي لا يمكن قراءتها إلا كتعبير رمزي صارخ عن واقع المجتمعات التي تخشى التغيير، وتجرّم كل من يحاول أن يُفكر خارج النص، أو يُبادر خارج النسق. في هذه الرواية العميقة، لا يكون الجنون في أذهان النزلاء بقدر ما يكون متغلغلاً في المؤسسات المتكلسة التي تُعرّف العقلانية على مقاسها، وتقصي كل من يُبدي وعياً يتجاوز المألوف.
في قلب السرد، ينجذب الطبيب “أندري يفغرافيتش راجين” إلى أحد نزلاء المصحة، “إيفان ديميترييفيتش”، وهو مثقف سابق أُدخل عنوة إلى المصحة بسبب أفكاره الحرة وجرأته في التعبير عن قناعاته. يتطور الحوار بين الطبيب والمريض إلى علاقة فلسفية عميقة، تكشف خللاً جوهرياً في مفهوم “الطبيعي” و”الجنوني”. لكن المأساة تبلغ ذروتها حين يُزج بالطبيب نفسه في العنبر ذاته، لا لأنه فقد عقله، بل لأنه تجرأ على خرق الصمت، على التفكير بصوت عالٍ، على طرح أسئلة محرجة في مجتمع يقدّس الصمت ويمقت التغيير.
تشيخوف، عبر هذه الحبكة الرمزية، لا يكتب عن المصحات النفسية فقط، بل يكتب عن البنى السياسية والاجتماعية والثقافية المتكلسة، عن مجتمعات تعادي التحديث، وتخشى التغيير، وتعاقب المختلفين لأنهم يشكلون تهديداً صريحاً للواقع القائم.
ما أشبه تلك المصحة، بمؤسسات في عالمنا العربي، حيث تُجرّم الأفكار الإصلاحية، وتُواجه محاولات التغيير بالإنكار أو التهميش أو التشويه. فكل من يدعو إلى الإصلاح الحقيقي، إلى تحديث الهياكل، إلى كسر الجمود، يوصف إما بالمتمرد، أو الحالم، أو حتى “غير الواقعي”. وتُفتح عليه نيران الاتهامات: أنه يريد زعزعة الاستقرار، أو أنه يسعى لهدم القيم، أو أنه ببساطة لا يفهم “الواقع”.
لكن الحقيقة، التي بات من غير المقبول تجاهلها، أن مقاومة الإصلاح لا تخرج عن احتمالين اثنين لا ثالث لهما: إما الخوف من المستقبل وانعدام الثقة بالقدرة على التكيف مع الجديد، أو التورط في الاستفادة من الوضع القائم. فالفئة الأولى أسيرة الماضي، ترتجف من المجهول، وترى في أي تغيير تهديداً لهويتها أو نفوذها أو مكانتها. أما الفئة الثانية، فهي من المستفيدين من استمرار الوضع كما هو: من تكلس إداري، ومنظومات فساد، وضعف محاسبة، وغياب الشفافية. ولذا فهي تقاتل بكل أدواتها لإبقاء الباب موصداً في وجه كل إصلاح حقيقي.
إن التحديث ليس ترفاً فكرياً أو شعاراً خطابياً، بل هو ضرورة وطنية، وهو الطريق الوحيد للخروج من دوائر التخلف والانحدار. لا تنمية دون تغيير، ولا عدالة دون إصلاح، ولا تقدم دون نقد الذات وتجاوز العوائق. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بوجود خلل، لا من إنكار الواقع أو تبريره أو تزيينه بأرقام وإنجازات لا يلمسها المواطن.
في كل عصر، يكون للمجتمعات خياران: إما أن تُواكب روح العصر، أو تُترك في الهامش التاريخي. والتغيير ليس مغامرة، بل هو شجاعة أخلاقية ووطنية، تحتاج إلى قيادات تؤمن بالتحول لا بالتحنيط، وبالاجتهاد لا بالجمود، وبالجرأة لا بالتردد.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط إدراكاً لضرورة الإصلاح، بل إرادة سياسية وثقافية تدفع به إلى الأمام، وتحميه من معاول المنتفعين، وتحصّنه ضد ثقافة الخوف والاتكالية. علينا أن نكف عن توصيف الواقع فقط، وأن نبدأ بتغييره. فالعبرة ليست في تشخيص الأزمة، بل في امتلاك الشجاعة لمعالجتها، حتى لو اصطدمنا بمقاومة شرسة من أصحاب المصالح الضيقة.
إن قصة “عنبر رقم 6” ليست حكاية من الماضي الروسي البعيد، بل هي مرآة نرى فيها أنفسنا، وواقعنا، ومصائرنا إن لم ننتفض من الداخل ونؤمن أن الإصلاح طريق لا بديل عنه.
فيا من بيدكم القرار: لا تُجرّموا من يحلم، لا تُقصوا من يجرؤ، ولا تعاقبوا من يشير إلى الخلل. فالتغيير ليس خطراً… التغيير هو الحياة.